يتوجه النقد بكثير من الحدة إلى الأحزاب والتيارات العلمانية بأيديولوجياتها وبرامجها التي عملت بكثير من القسوة بغطاء الثورية، على تهميش القيم الدينية والأخلاقية، ولاسيما الإسلامية منها، بأبعادها النفسية والاجتماعية، ما أدى إلى إبعاد المجتمعات العربية الإسلامية عن فضاءات السلام والوئام والتسامح والتعاون واللحمة الوطنية، مع انتشار بدائل سلبية تفشت بسرعة تفشي بقعة الزيت في المياه العذبة لتساعد الديكتاتورية في هيمنتها بتعميم الفساد والمحسوبية اللاقانونية. ويعيد الكثير من الباحثين، خاصة بعد حقبة الديكتاتوريات التي هيمنت على غالبية الأقطار العربية وسببت الإشكالات والانقسامات الاجتماعية، الطائفية منها والإثنية والطبقية، أسبابَ موقف التيارات العلمانية، أو غالبيتها، من القيم والتقاليد الإسلامية الى مكونات طائفية باطنية، أو عوامل إثارة خارجية من جهات معادية للأمة العربية وطموحاتها الحضارية، كما إسرائيل ونظام الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفياتي السابق (تشجيع خالد بكداش الكردي في سورية)، وكذلك (أكراد العراق) ضمن خطة كسر اللحمة الوطنية السورية والعراقية، كل ذلك مختلطاً برغبات ديكتاتورية شمولية في كثير من الأقطار العربية. وأمام الحراك الاجتماعي الذي تعيشه منطقتنا قصد التوجه نحو بناء حياة جديدة تتماشى وقيمنا الأصيلة وتواكب التطور الحضاري العالمي باتجاه ترسيخ قيم الديموقراطية والحرية والعدل، تبرز أهمية التربية المواطنية التي نحتاجها كأساس لعملية الحراك الاجتماعي الثوري، مستندين في ذلك إلى أن من أهم أسس هذا الحراك التأسيسي لنهضة عامة للأمة هو تحرير العقل من الاستلاب في بناء مواطن فاعل يتحمل مسؤولية الرهانات القائمة في تغيير أنماط السلوك وفق متطلبات المتغيرات الضرورية والمعطيات العالمية ويتحمل مسؤولية الحقوق والواجبات في إطار احترام الخصوصيات والرأي الآخر. ونستطيع أن نضع بعض المفاهيم التي تستند إليها المواطنة وفق رؤية غالبية النخب العربية في: 1- التوازن بين الحرية والمسؤولية. 2- حرية الفرد في ممارسة حقوقه وواجباته. 3- الشفافية المستندة إلى المصداقية وحرية التعبير. 4- احترام سيادة الفرد والوطن وعقائد المجتمع الدينية. 5- العدل والديموقراطية والمساواة بين الجنسين. 6- التنوع والتعددية في إطار وحدة الوطن. 7- احترام القواسم العالمية المشتركة في السلام والأمن العالمي وحقوق الإنسان وحماية البيئة والمياه والغذاء. إن تأسيس حياة تحترم مفهوم المواطنة يتطلب ثورة تربوية في المجتمع تكون المدرسة نواتها وغير بعيدة من تراث الأمة وعقيدتها وفق خطة علمية متكاملة، بحيث يكون المجتمع المحيط مسانداً وداعماً، فالإصلاح التعليمي من المسائل الأكثر استجابة وتأثيراً وحساسية، فكما أن للبيت دوراً هاماً في تربية المواطنة وللمسجد وأماكن العبادة عموماً الدور الإكمالي، فإن المدرسة تشكل دوراً ترسيخياً -وفق صالح بلعيد- في المعارف وتوجيه الطلبة لخدمة المجتمع وتقويته، وفي فتح أجواء التعاون وممارسة الديموقراطية، والتزام الواجب والمسؤولية، وفي نبذ العنف، وفي التوجه نحو السلم الاجتماعي المؤسس على الحرية وقبول الآخر والحوار والتعددية. الأمر الذي يؤكد أهمية وضع المواطنة في سلم الأولويات التربوية إلى جانب تعلم المهارات وتنميتها والتعامل مع التحولات بمرونة وفاعلية، إذ لا مواطنة من دون مواطن كفء وواع ومؤمن بأهداف مجتمعه وأمته وتكويناته المتعددة. ومن الميدان التربوي تتداخل الخيوط وتتعقد في الانتقال إلى الفضاء الاجتماعي، الأمر الذي يوضح أهمية السعي العلمي للمدرسة العربية الإسلامية إلى بناء تفصيلي لعقود اجتماعية جديدة ووضع أسس تربية مستدامة تستند إلى مرتكزات أربع وفق زهيدة درويش جبور في كتاب «القيم إلى أين» (إصدار اليونسكو – تونس 2005م). 1- تعلم اكتساب المعرفة. 2- تعلم ممارسة المعرفة. 3- تعلم الوجود. 4- تعلم العيش المشترك. وأمام إبراز دور الهوية العربية الإسلامية وخصوصيتها الإنسانية، تبرز باهتمام كبير المفاهيم التربوية الإسلامية في التربية المواطنية من حيث دور المعلم والداعية كقدوة ونموذج في فهم وسطية الإسلام والانفتاح على الآخر استناداً إلى قوله تعالى: «لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً» [البقرة: 143]. فالإنسان مسؤول أمام الله، استخلفه على إقامة العدل والطمأنينة في إطار من الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ المواثيق والعهود ومطابقة القول للفعل. ما يمكن أن نتوقف عنده في مفهوم التربية المواطنية، هو أن الجهاد الذي دعا إليه الإسلام هو جهاد النفس اولاً، مستذكرين وصية الرسول الكريم محمد (ص): «لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تقطروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، وإذا مررتم بقوم فَرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك مَن قبلكم بالغلو في الدين. إنما الدين الأخلاق، وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. هلك المتنطعون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وافعالهم». وفي الحديث الشريف أيضاً، كما ورد في سنن أبي داوود: «ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منّا من قاتل على عصبية، وليس منّا من مات على عصبية». وسياسة السلم والتسامح في الإسلام واضحة في قوله (ص) بعد فتح مكة: «اذهبوا فانتم الطلقاء». وأخيراً، قد يكون في كل ما تقدم تبيان أهمية التربية الإسلامية المستدامة في هذه الظروف العربية بالذات لتكون مؤشراً واضحاً تفتح مجال المشاركة الإيجابية الفاعلة وفق الصورة التي رسمها الإسلام فنبقى مسالمين في قوّة وآمنين في عزّة ومتحررين من كل عصبية عمياء. * أستاذ جامعي سوري