عن دار «العين» للنشر في القاهرة صدر كتاب «ثورة 25 يناير... الثورة مستمرة» للصحافي محمد عبدالهادي علام. وهو قراءة في جذور النظام السياسي الذي فتح السادات ومجموعة من معاونيه صفحته في أيار (مايو) 1971. فالبعض ممن ثار وهتف «الشعب يريد إسقاط النظام» كان يعني هذا النظام وامتداده وصولاً إلى خطة توريث الحكم لجمال مبارك. يقول علام: هناك نوعان من الحكام مرا على مصر عبر تاريخها، الأول بحجم مصر استراتيجياً وحضارياً، والثاني يجعل مصر بحجمه، والزعيم جمال عبد الناصر من النوع الأول، والرئيسان السادات ومبارك من النوع الثاني. الأول تعكس سياساته إدراكاً لمكانة مصر والخروج بها من النهر إلى البحر انسجاماً مع مصالح البلد الاستراتيجية التي تتجاوز حدودها السياسية. وذلك يأتي في ملفين رئيسيين: ملف مياه النيل امتداداً الى مصر دول حوض النهر، والمف الثاني هو علاقة المصريين مع بعضهم بعضاً. وقد كان ملفا المياه والأقباط – منذ الفتح الإسلامي لمصر مثلاً – خاصين بديوان الحاكم لمنع التلاعب فيهما. ويكمل علام: لذا تتراجع مكانة مصر ويتلاشى بريقها الحضاري ويضاءل حجمها الطبيعي عندما ينكفئ الحاكم بالبلد وترتد مصر إلى داخل حدودها السياسية ويتنازل الحاكم عن إدارة الملفات لمن هم دون مستوى الإدراك والمسؤولية. والسادات ومبارك من هذا النوع الذي تجلت كوارثه في هذين الملفين، مشكلة مع دول حوض النهر حول حصتها من مياهه، وأخرى في العلاقة بين المسلمين والأقباط في الداخل كإحدى نتائج التغييب المتعمد للمشروع الوطني. لقد نفى السادات مبادئ وأهداف تجربة المشروع الوطني (ثورة يوليو 1952) السياسية والاجتماعية في انقلاب أيار (مايو) 1971، وتم هذا التدمير تحت شعار «التصحيح»، واستغل حرب 1973 كشرعية جديدة للذهاب إلى مدى بعيد استراتيجياً وسياسياً واجتماعياً بالخروج بمصر من محيطها العربي والاسلامي والافريقي بعدما كانت الحرب وفرت فرصة سانحة لتدارك مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة، فانكفأ السادات بمصر وأكمل مبارك المشوار سائراً على نهج السادات ومطوراً له، على نحو ما شهدت البلاد على مدى 30 عاماً. فإذا كانت شرعية تموز (يوليو) 1952 «انتهت إكلينكياً» في الخامس من حزيران (يونيو) 1967 فإن إشهار وفاتها رسمياً حدث مع انقلاب أيار (مايو) 1971. ويستطرد علام: لقد منحت الأقدار المصريين عام 1805 فرصة تاريخية لأن يحكم بلدهم واحد منهم للمرة الأولى منذ نهاية حكم الأسر الفرعونية، لكن أحداً منهم لم يتقدم وذهبت الطبقة السياسية آنذاك إلى العسكري الألباني في الفرقة العثمانية - التي كانت قد جاءت لصد الحملة الفرنسية - محمد علي، لكي يهدوا إليه حكم البلاد التي حكمها بشرعية اختيار وجهاء الأمة وممثليها. لكن محمد علي لم يهدر الفرصة التاريخية لكي يؤسس أسرة حاكمة تأسيساً على إنجازات تجربته التي منحته شرعية إضافية مستأنفاً حكم «الأسرات»، إذ أبرم صفقة مع القوى الدولية عام 1840 حصل بمقتضاها في معاهدة لندن على حق توريث الحكم لذريته مقابل التخلي عن مشروعه الإقليمي. وفي العام 1882 حاول أحمد عرابي أن يكون حكم مصر للمصريين وأن تكون شرعية الحكم مستمدة من اختيار الشعب، وانتهت المحاولة بالفشل نتيجة للخيانة والتآمر والاحتلال البريطاني الذي كان حل الجيش المصري أول قراراته بعد الاحتلال. وبمقتضى معاهدة 1936 استطاع مصطفى النحاس أن يحصل على السماح بقبول أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة في الكلية الحربية. وفي 23 تموز (يوليو) 1952 تقدم البكباشي جمال عبد الناصر- الذي كان من بين طلاب الدفعة الأولى بالكلية الحربية بعد المعاهدة - على رأس تنظيم «الضباط الأحرار» الذي أسسه لتسلم السلطة، وأسس لشرعية جديدة استندت إلى تحقيق مطالب الأمة وطموحات الشعب وعلى رأسها حلم تأميم قناة السويس، وأنهت ثورة تموز (يوليو) حكم أسرة محمد علي وأسست النظام الجمهوري وأعادت حكم مصر للمصريين للمرة الأولى منذ عصر الفراعنة بعد أكثر من ألفي عام حكم خلالها البلاد أجانب. وفي العام 1956 تم وضع دستور جديد للبلاد تأسيساً لشرعية دستورية تحل محل الشرعية الثورية، وتم حل مجلس قيادة الثورة وانتخب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية في استفتاء عام، وهذه الشرعية جاءت بأنور السادات رئيساً للجمهورية في تشرين الأول (أكتوبر) 1970 بعد وفاة عبد الناصر، ودشن في أيار (مايو) 1971 انقلابه على الثورة ووضع دستوراً جديداً للبلاد. وبينما كان السادات يفاخر بأنه هو الذي انتقل بمصر من مرحلة الشرعية الثورية إلى مرحلة الشرعية الدستورية، شهدت البلاد فترة حكمه انفصاماً تاماً بين الدستور وبين سياساته، ففي الوقت الذي كان ينص دستور 1971 على التوجه الاشتراكي، كان يتم تفكيك القطاع العام وتعرض وحداته للبيع ويُلغي الدعم تحت مظلة الانفتاح والخصخصة. ثم جاء دستور 1971 ونظام انقلاب أيار 1971 بمبارك رئيساً للجمهورية عقب اغتيال السادات في تشرين الأول (أكتوبر) 1981 إضافة إلى دوره في حرب أكتوبر 1973 كشرعية مضافة. وعلى غرار سلفه، وبعد تصريحات رفض فيها المساس بالدستور، ادعى مبارك الرغبة في الإصلاح وتعديل الدستور ليكون «دستوراً عصرياً». وتحت ضغط القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة التي تشكلت في عصر الانفتاح والخصخصة، وتحت ضغوط زوجته ونجله الطامح لخلافة والده ووراثة حكم البلاد، افتتح مبارك التعديل عام 2005 بتعديل المادة 76 فقط الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع الحر المباشر من بين أكثر من مرشح، وتم تصميم المادة تصميماً فريداً غير مسبوق بشكل لا يسمح سوى لنجله جمال بالترشح والفوز بالرئاسة في انتخابات تأخذ شكل الانتخابات لصعوبة تمرير «التوريث» بطريقة أخرى. وعلى غرار محمد علي في معاهدة لندن 1840 حاول مبارك إبرام صفقة دولية تسمح بتوريث حكم مصر لنجله جمال، وعمل جاهداً للحصول على الدعم الأميركي للمشروع، كما حصل على دعم إسرائيل مقابل استمرار سياسته في عزل مصر عن محيطها العربي والإسلامي وإفقارها وتقديم التنازل تلو التنازل وتراجع دورها الإقليمي في المنطقة العربية.