درجت بعض الآراء، من داخل منطقتنا العربية وخارجها، على القول إن العالم العربي غير مهتم بممارسة العمل السياسي بشكله المعاصر. وذهب بعضها أبعد من ذلك، ليزعم أن شعوب العالم العربي لا ترغب بالديموقراطية، وأننا غير مستعدين، أو مؤهلين للتعامل معها أو احتضانها نهج حياة. غير أننا في الأردن، لا نقبل مثل هذه المزاعم، ولم ولن نذعن لها أبداً. إن تجديد الحياة السياسية في العديد من الدول العربية من شأنه أن يساهم في تلبية تطلعات أبناء وبنات الوطن العربي نحو حياة أفضل، إلا أن الطريق نحو هذا التجديد، واحتضان الديمقوراطية ليس بالطريق السهل ولا المختصر كما يظن البعض، بل هو مليء بالصعوبات لكنه ضروري، بل حتمي للمجتمعات التي تنشد التطور. وفي ضوء هذه المعطيات، فإننا نعمل في الأردن على تطوير نموذجنا الديموقراطي، الذي يعكس ثقافة مجتمعنا الأردني واحتياجاته وتطلعاته. وقد جاءت الأوراق النقاشية الثلاث السابقة بشكل أساسي للمساهمة في إثراء حوارنا الوطني حول النموذج الديموقراطي الذي ننشد، وأهدافه، والأدوار المطلوبة من كل الفاعلين في العملية السياسية، والمحطات الواجب عبورها ترجمة لهذا النموذج. ولم تغفل الأفكار التي طرحناها الضمانات الضرورية لنجاح تعميق تحولنا الديموقراطي، وأبرزها حماية التعددية، والتدرج، وعدالة الفرص السياسية. لقد باتت الرؤية الآن أوضح لدى قطاعات واسعة من المجتمع، إن الهدف الأساسي من الإصلاح هو تعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار، من خلال تعميق نهج الحكومات البرلمانية، بحيث نصل إلى حكومات مستندة إلى أحزاب برامجية وطنية وذلك على مدى الدورات البرلمانية المقبلة، بحيث تكون هذه الأحزاب قادرة على تحقيق حضور فاعل في مجلس النواب، يمكنها من تشكيل حكومة غالبية على أساس حزبي برامجي، توازيها معارضة نيابية تمثل الأقلية، وتعمل ضمن مفهوم حكومة الظل، وتنافسها بشكل بنّاء عبر طرح الرؤى والبرامج البديلة، ويشرع الطرفان في التنافس عبر صناديق الاقتراع من أجل تداول الحكومات. ومن أهم متطلبات التحول الديموقراطي تعزيز المجتمع المدني ودوره في مراقبة الأداء السياسي وتطويره نحو الأفضل، عبر ترسيخ الثقافة الديموقراطية في المجتمع، وهذا هو صلب هذه الورقة النقاشية الرابعة، إذ أنها تتزامن مع إطلاق جهد جديد من المؤمل أن يعزز مساهمة مجتمعنا المدني في بناء نموذجنا الديموقراطي، من خلال الشروع في وضع اللبنات الأساسية للثقافة الديموقراطية في مجتمعاتنا المحلية، ليكون التغيير الديموقراطي حقيقة ملموسة على كل المستويات. ونظراً إلى أهمية مؤسسات المجتمع المدني في تطوير نموذجنا الديموقراطي، فقد وجهت إلى ضرورة إطلاق برنامج التمكين الديموقراطي في خطاب ألقيته في 10 كانون الأول 2012 في الذكرى الخمسين لتأسيس الجامعة الأردنية. واليوم نشهد الإطلاق الرسمي لهذا البرنامج تحت مظلة صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية. ويؤكد إطلاق هذا البرنامج أن تقدمنا على طريق إنجاز نموذجنا الديموقراطي سيتحدد بقدرتنا على عبور محطات محددة، تؤشر إلى تقدم ونضوج سياسي حقيقي وملموس، وليس مواعيد نهائية مسبقة أو عشوائية. وعلى امتداد طريق التنمية السياسية والتحول الديموقراطي الذي نسلكه، بما يتخلله من نجاحات وإخفاقات، سيكون التزامنا المشترك بالممارسات الديموقراطية الراسخة هو ضمانة النجاح في مواجهة مختلف المعوقات. ويشكل مبدأ الالتزام والمشاركة جوهر «المواطنة الفاعلة»، التي تعرضت لها في أوراقي النقاشية السابقة، والتي سأركز عليها في هذه الورقة، شرطاً أساسياً لتحقيق التحول الديموقراطي. المشاركة السياسية والمواطنة الفاعلة: قبل الخوض في أهداف البرنامج ورؤيته، أودّ مشاركتكم بعض الأفكار في أهمية الانخراط في الحياة السياسية والتحلي ب «المواطنة الفاعلة». عندما أتحدث عن الحياة السياسية في هذا السياق، فإنني أعني السياسة بمفهومها الأوسع، أي العملية التي نناقش من خلالها القضايا التي تعني مجتمعنا، مستندين إلى الاحترام المتبادل تعبيراً عن اختلافاتنا، والتي نصل من خلالها إلى حلول عملية عبر الحوار الهادف والبناء، وإلى قبول حلول وسط تمكننا من حل خلافاتنا، وتحقيق مصلحة المجتمع ككل. إن هذه العملية لا تنحصر في القضايا الوطنية التي يتم مناقشتها تحت قبة مجلس الأمة فقط، بل تشمل القضايا التي تمس مجتمعاتنا المحلية وحياتنا اليومية كمواطنين، مثل حرص الأهالي على نوعية التعليم التي يتلقاها أبناؤهم وبناتهم في المدارس، وهموم المواطنين والمواطنات إزاء قضايا النقل العام، وغيرها من الخدمات العامة. أما المشاركة السياسية فلا تكون ذات أثر إيجابي، إلا حين يؤمن كل فرد منا ب «المواطنة الفاعلة»، التي ترتكز على ثلاثة أسس رئيسة وهي: حق المشاركة، وواجب المشاركة، ومسؤولية المشاركة الملتزمة بالسلمية والاحترام المتبادل، معززة بالمبادئ التالية: أولاً، إن الانخراط في الحياة السياسية يشكل حقاً أساسياً لكل مواطن، مع وجوب حماية الحيّز العام المتاح للتعبير الحر عن الآراء السياسية المختلفة. ثانياً، إن المشاركة السياسية في جوهرها تشكل مسؤولية وواجباً. فعلى كل مواطن أن يتحمل جزءاً من هذه المسؤولية عبر اختيار شكل المستقبل الذي ننشده للأجيال المقبلة. وواجبنا كمواطنين لا ينتهي بمجرد القيام بعملية التصويت في أي انتخابات وطنية، بل يمتد ليشمل التزام كل مواطن بالمشاركة الفاعلة في الحياة المدنية والسياسية بشكل يومي، من خلال القيام، على سبيل المثال، بحملة ترويجية لقضية تهمنا، أو التطوع في نشاط مدني، أو الانضمام إلى حزب سياسي. وبطبيعة الحال، فإن الديموقراطية الحقة تكفل خيار البعض عدم الانخراط في العملية السياسية أو مقاطعتها. لكن من يسلكون هذا الطريق يتخلون عن فرصة حقيقية، وعن واجبهم الفعلي بالمساهمة في تحقيق الأفضل لوطنهم. إننا كمواطنين نشترك في مصير واحد، وعلينا واجب مشترك، أما الاستسلام إلى عقلية اللامبالاة، والرضوخ للواقع، والقبول بالأداء المتواضع فسيعطل قدرتنا كأمة على المضي قدماً. إننا لن نستطيع أن نبني أردناً أفضل وأقوى من دون الإيمان بأن المواطنة الفاعلة هي مسؤولية وواجب يترتب على كل واحد منا. ثالثاً، إن المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية ترتب مسؤوليات على كل فرد منّا في ما يتعلق بكيفية الانخراط في العمل السياسي. وقد ذكرت في ورقتي النقاشية الأولى أربع ممارسات ديموقراطية يترتب على كل المواطنين الإيمان بها حتى تزدهر الحياة السياسية، وهي: احترام الرأي الآخر، والانخراط الفاعل، وتبني الحوار والحلول الوسط ورفض العنف، والشراكة في التضحيات والمكاسب. ما أوّد تأكيده هنا هو أن الاختلاف في الرأي والمعارضة البناءة الملتزمة هذه الممارسات، والتي تبني مواقفها على أساس الحقائق والوعي، وليس الانطباعات والإشاعات أو الاعتبارات الشعبوية، تشكل أحد أهم الوسائل التي يعبر المواطن من خلالها عن ولائه للوطن. إن التحلي بالاحترام والمروءة هي من المبادئ التي نعتز بها في ثقافتنا العربية، وعلينا أن نوظف هذه المبادئ كأسس للانخراط في الحياة السياسية. ومن الضرورة بمكان أن ننوّه إلى أن عدم الاحترام لا يكون في الاختلاف في وجهات النظر، وإنما في رفض الاستماع إلى وجهات النظر المختلفة. فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. كما أن حواراتنا ونقاشاتنا يجب أن تُبنى على معلومات موضوعية من أجل الوصول إلى قرارات تخدم المصلحة العامة، لا على الإشاعات، والعدمية المطلقة التي تنكر على الوطن إنجازاته وتطوره، ولا على التنظير والتشخيص غير الموضوعي للماضي من دون طرح البدائل والحلول العملية للحاضر والمستقبل. لنمض في تمكين ديموقراطي يوفر أدوات «لمواطنة فاعلة»: عودةً إلى برنامج التمكين الديموقراطي، فإن إطلاقه رسمياً يأتي محطة إضافية وجديدة على مسار التنمية السياسية وتعزيز المشاركة. ونستذكر اليوم جميع الجهود التي بذلها العديد من الأردنيين والأردنيات شيباً وشباباً من رواد العمل الاجتماعي من أجل تنمية حياتنا السياسية والمجتمعية. إن هذه الجهود تشمل كل من أدلى بصوته في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وكل من شارك في تظاهرات سلمية بناءة تراعي مصالح الوطن، وكل من قاد جهوداً مجتمعية مثل نشاطات طالبية وكشفية في المجتمعات المحلية، أو في تنظيم جلسات نقاشية وحوارات إلكترونية حول المستجدات السياسية. إن هذا البرنامج سيساهم في ترسيخ المواطنة الفاعلة، وسيعمل على تمكين الأفراد والمؤسسات، ممن لديهم أفكار عملية، لتطوير نموذجنا الديموقراطي، عبر تقديم الدعم لترجمة ذلك على أرض الواقع. فالبرنامج سيدعم الرياديين الاجتماعيين ليتيح لهم التأثير في الشأن العام، عبر زيادة وإثراء المنابر الديموقراطية المتاحة كمنتديات الحوار، وبرامج التدريب، وغيرها من الأدوات المتوافرة لكل الأردنيين ليصبحوا مواطنين فاعلين ومنخرطين في الحياة العامة. وسيدعم البرنامج في البداية مشاريع تهدف إلى تعزيز مناخ المساءلة والشفافية، وإتاحة فرص جديدة أمام الأردنيين لمناقشة القضايا المهمة التي تواجه الوطن، وتسخير كل المواهب والإبداعات المرتبطة بخدمة المجتمع. ولا شك في أن الأردن يزخر بكثير من الأمثلة الإيجابية على مؤسسات ناشطة في مجالات مشابهة ترتبط بجوانب من حياتنا السياسية والاجتماعية. وأثني هنا على كل الجهود الدؤوبة والريادية لبناء مجتمع مدني على امتداد ربوع وطننا، وأؤكد أن برنامج التمكين الديموقراطي يأتي ليوفر مزيداً من الدعم للفاعلين في هذا المجال وتوسيع قاعدة نشاطاتهم. وفي الوقت ذاته، لا بد من الإقرار بأننا كمجتمع بحاجة إلى آليات أفضل لترجمة الأفكار الريادية على أرض الواقع، وهذا في صلب أهداف البرنامج. إنني أتطلع إلى أن يوفر البرنامج المساعدة لمن يحملون أفكاراً جديدةً تهدف الى زيادة انخراط المواطنين في مجتمعاتهم، وسيتاح للأردنيين من شتى التوجهات الفكرية إطلاق وإدامة مبادرات تروّج للانخراط السياسي والاجتماعي السلمي الفاعل. وبالتوازي مع ما سيتم إعلانه اليوم، خلال الأسابيع المقبلة من تفاصيل حول البرنامج، فإنني أود تأكيد مجموعة من المبادئ التي حرصتُ على أن أوجه القائمين على البرنامج للعمل في إطارها: أولاً، أن يعمل البرنامج وفق أسس غير حزبية تلتزم الحياد، فهو سيدعم المؤسسات الصغيرة والكبيرة التي تهدف للمساهمة في تعزيز المشاركة السياسية والمدنية، ولن يقدم الدعم لأحزاب سياسية. ثانياً، أن ينتهج البرنامج أسس الشفافية لدى تقديم الدعم. وسيتم فتح باب الاستفادة لكل الأردنيين المهتمين، وستخضع آلية اختيار المستفيدين من هذه البرامج لقواعد مُحكمة، وعلى أساس التنافس الشريف. وسيتم في البداية إطلاق مبادرات ذات نطاق أوسع بالشراكة مع جهود قائمة، أو مؤسسات أخرى ذات سجلات نجاح يمكن تتبعها. يشكل برنامج التمكين الديموقراطي إضافة نوعية، لكنه ليس كفيلاً لوحده بحل جميع التحديات التي سنواجهها سوية على امتداد مسيرتنا نحو التنمية السياسية والتحول الديموقراطي. وهو يجسّد جزءاً من مساهمتي تجاه هذه المسيرة، تحت مظلة صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية. إنني أحض جميع الأردنيين ممن لديهم أفكار إبداعية، والاستعداد للعمل الجاد خدمة لوطننا، ويرون في أنفسهم القدرة على القيام بدور قيادي في بناء نظامنا الديموقراطي السياسي، أن يخطوا إلى الأمام ويستفيدوا من الإمكانات المهمة التي يوفرها هذا البرنامج. إنكم إذ تقبلون على هذه المسؤولية، وتضربون مثالاً في ريادة العمل السياسي والاجتماعي والمدني، وتساهمون في بناء أردن أفضل وأقوى لجميع أبنائه وبناته، فإنكم تصنعون قصص نجاح على مستوى الوطن العربي والعالم، وتثبتون أننا قادرون على أخذ زمام المبادرة وإنجاح ديموقراطيتنا. * العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني * هذه المقالة هي الورقة النقاشية الرابعة ضمن سلسلة أوراق ينشرها الملك عبدالله الثاني ابن الحسين لعرض رؤيته إلى مسيرة الإصلاح الشامل في الأردن في مختلف المجالات، وتنشر على الموقع الإلكتروني للملك: www.kingabdullah.jo وتتزامن مع إطلاق برنامج التمكين الديموقراطي التابع لصندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية.