عندما يحل رجب طيب أردوغان في الرباط لن يجد حليفه في الاسم والانتساب «العدالة والتنمية» المغربي في أحسن حال. فقد تبددت بعض معالم التجربة التي كان يعول أن تحدث تغييراً هائلاً في المشهد السياسي. أقله أن رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بن كيران يصارع على جبهات عدة، موزعة بين شركائه في الائتلاف وخصومه في المعارضة. وقد تمسك بأن يكون في مقدم مستقبلي المسؤول التركي وألغى التزاماته لجذب دعم خارجي، في مقابل الانحسار الداخلي. قد لا يكون الأمر بهذه الحدة. غير أن تعاطي بن كيران مع الأزمة التي تجتازها حكومته يؤشر إلى أنه يبدو واثقاً ولا مبالياً. فهو يتصرف وكأن لا شيء حدث، واختزل ملامح الأزمة بالقول إنها تطاول تفاهم الغالبية وليس الانسجام والتضامن الحكوميين. أي أن الحل يمكن أن يمر عبر بوابة الغالبية من دون أن تتأثر الحكومة. مع أن الفرضية تظل مستبعدة بكل المعايير. أقربها أن الغالبية هي المساند المحوري للحكومة، وأي خلل يعتريها قد يعرض الحكومة إلى مخاطر. اللافت في غضون ذلك أن الغالبية لم تتخلص من تداعيات الانفصال الذي أقره الاستقلال، حتى أضيفت أزمة أخرى إلى انفصال طاول مقاطعة كتل المعارضة جلسة نيابية في مساءلة رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران. وعلى رغم الفارق بين الهزتين الارتداديتين، فإن وضع الحكومة التي يقودها الإسلاميون يكتنفه الغموض. أقله أنها تمضي في غياب وفاق الغالبية ومقاطعة المعارضة. ولم يصل الأمر إلى مفترق الطريق التي قد تحتم طلب سحب الثقة أو اللجوء إلى اشتراعيات سابقة لأوانها. فالمعارضة في حال انضمام الاستقلال إلى صفوفها تستطيع أن تطيح الحكومة دستورياً بقوة النفوذ السياسي الذي يهز أركان الائتلاف الحكومي. لكن الأخير لم يحسم أمره بعد. ولا يزال موزعاً بين قرار الانسحاب الذي اتخذه المجلس الوطني وسريان مفعوله على صعيد الممارسة، في انتظار تحكيم ملكي. فيما «العدالة والتنمية» يشتغل بمنطق أن لا شيء تقرر حتى الآن، طالما أن عقد السلطة التنفيذية لم ينفرط. ولم يصدر عن الحليف (الاستقلال) ما يفيد بأنه انضم عملياً إلى المعارضة. نوع من السريالية وخلط الأوراق والمواقع، بدأ يهيمن على المشهد السياسي في البلاد. وفيما توخت فصائل المعارضة من خلال مقاطعة جلسة المساءلة الشهرية بعث رسالة إلى رئيس الحكومة تفيد بأن أياً من أطرافها لن يتحول إلى عجلة إغاثة تساعد عربة الحكومة في السير، اختار بن كيران الاتكاء على الغالبية، في أول امتحان لحزب الاستقلال. ولعله أراد من وراء ذلك الإيحاء بأن الأزمة عابرة أو في طريقها إلى الحل. أكان ذلك عبر تجرع مرارة انسحاب الاستقلال أو في البحث عن حليف جديد، أو العودة إلى خيار صناديق الاقتراع الذي في وسعه أن يعاود الصراع إلى نقطة الصفر. نظرياً تبدو كل الاحتمالات واردة. والأهم على الصعيد السياسي أن التجربة التي عاشها المغرب بعد اشتراعيات تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، بخلفية الحراك الذي اندلع في الشارع، صارت أقرب إلى شيء من الماضي، مع أن عمر الحكومة الحالية لا يزيد عن عام ونصف العام. وقد يعزى ذلك إلى تأثير الأزمة الاقتصادية التي قيدت حركة الحكومة وجعلتها تميل إلى التردد في تنفيذ إصلاحات هيكلية وإستراتيجية، أو إلى دهشة المرحلة التي زادت في منسوب الحذر والتحفظ. أو إلى عوامل أخرى. لكن الأهم أن الإسلاميين الذين أبدوا مرونة وانفتاحاً كبيرين عند تشكيل الحكومة، لم يقدروا على صون تحالفهم، أياً كانت نوعية الخلافات، وإذ يعيب الاستقلال وفصائل في المعارضة على بن كيران أنه يتصرف كزعيم حزبي أكثر منه رئيس سلطة تنفيذية، فإن المسافة بين الحزب الإسلامي والحكومة تبدو بدورها خاضعة لأصوات عدة. فبعض نواب الحزب يتموقعون إلى يسار المعارضة، فيما يطغى الكلام على الأفعال في التعاطي وإشكالات عدة، إلى درجة أن رئيس الحكومة نفسه ينتقد بعض التصرفات وكأنه يفترش كرسيه إلى جانب مقاعد المعارضة. لم تعرف أي حكومة مغربية كل هذا الفيض في التصريحات وردود الأفعال المضادة. وفيما كانت النخب الحاكمة تلوذ إلى الصمت والعمل في دائرة الكتمان، أصبحت الساحة السياسية أشبه بسوق عكاظ، كل طرف يغني على ليلاه. وإذا كانت الظاهرة عنوان حيوية في نقل النقاش إلى الرأي العام فإن معيار الأفعال يتضاءل أمام الكم الهائل من التصريحات. وسواء تعلق ذلك بتمارين متواصلة، أو أن النخب الحزبية لم تستيقظ بعد من صدمة الاشتراعيات التي حملت «العدالة والتنمية» الإسلامي إلى صدارة الواجهة في أي حال، فإن أجواء كهذه لا تساعد في معاودة اللجوء إلى تحكيم صناديق الاقتراع. ليس خشية تكرار النتائج وإنما مخافة ألا يتغير شيء كثير في موازين القوى.