عندما أعلنت المملكة العربية السعودية إلقاء القبض على شبكة التجسس الأولى لمصلحة المخابرات الإيرانية قبل شهرين أو أكثر، كان الخبر في البداية مدوياً ومؤلماً للكثير من المواطنين، وذلك بسبب أنه من المفترض أن إيران دولة إسلامية شقيقة، كما أن تورط عدد من المواطنين السعوديين في التجسس لمصلحة إيران هو أيضاً مؤلم، لأنه لا يوجد أي مبرر لمواطن سعودي أن يتجسس على بلده، إذ إن جميع الأعراف الاجتماعية والدينية والرجولة وغيرها من المعطيات، جميعها تؤكد أن التجسس هو خزي وعار بكل المقاييس، خصوصاً في مجتمعنا العربي، لذلك كان إلقاء القبض على الشبكتين مؤشراً ودليلاً على النيات الإيرانية تجاه المملكة العربية السعودية. الجاسوسية هي إحدى الوسائل التي تساعد الدولة في معرفة وكشف المعلومات عن الخصم، وقد استخدمت منذ التاريخ القديم، وكذلك الحديث، وكانت في أوج ازدهارها وتفوقها أيام الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة الأميركية وما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، إذ كانت أخبار الجاسوسية تسمع بشكل يومي، وما أفلام «جيمس بوند» إلا مؤشر على أهميتها، ولذلك ارتبط تاريخ التجسس بمصالح الدول، ولكن يفترض أن التجسس يتم بين الدول المعادية، لا الدول الصديقة والجارة، فإيران جارة وصديقة، ودائماً تمد المملكة العربية السعودية وباقي دول الخليج العربي لها يد العون، حتى أنني أذكر أننا استقبلنا في جامعة الملك سعود قبل نحو عشرة أعوام رئيس تشخيص مصلحة النظام الرئيس هاشمي رفسنجاني، في محاولة من المملكة تحسين العلاقات بين البلدين وإزالة التوتر، لكن يبدو أن المسؤولين في إيران لا يكنون الخير للمملكة وشعبها. أعتقد أن اكتشاف هذه الشبكات لم يترك مجالاً للشك لدى أي مواطن سعودي وعربي حول النيات الإيرانية، لذلك لا بد من استعراض تاريخ الأطماع الإيرانية في المنطقة العربية عموماً والخليج العربي خصوصاً، فالجميع يعرف أن الأطماع الإيرانية في الخليج هي أطماع قديمة، فمنذ أيام كسرى، مروراً بالشاه، وانتهاءً بالعهد الخميني، والأطماع الإيرانية في الخليج معروفة وواضحة، وما معركة ذي قار إلا شاهداً على تلك الأطماع التي كانت نقطة تحول فاصلة في العلاقة بين العرب والفرس، ووضعت حداً للغطرسة الفارسية تجاه العرب، إذ قال الرسول «صلى الله عليه وسلم»: «هذا أول يوم انتصف العرب من العجم وبي نصروا»، لكن يبدو أن الأطماع الإيرانية لا تزال تتجدد، خصوصاً مع الثورة الإيرانية التي رأت ومنذ بدايتها أن المملكة العربية السعودية هي السد والحاجز المنيع أمام تصدير ثورتها إلى الوطن العربي، ابتداءً من قلبه، ومن ثم توسعها في باقي مناطق العالم الإسلامي، مستغلة القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب الرئيسة، لتكسب تعاطف ملايين الجماهير العربية، بقطعها العلاقات الديبلوماسية مع إسرائيل ورفع العلم الفلسطيني على سفارتها في إيران، وكذلك طردها للديبلوماسيين الأميركيين، وإحراقها للعلم الأميركي، وقطع العلاقات الديبلوماسية مع أميركا، وتسميتها بالشيطان الأكبر بسبب تآمرها على إيران ودعمها للكيان الصهيوني، ولذلك كسبت تعاطف الملايين من العرب والمسلمين، لكن ما لبثت أن كشفت عن نياتها الحقيقية، باستهدافها المنطقة العربية وهددت العراق ودول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة، وتسببت باندلاع الحرب العراقية الإيرانية الأولى التي أحرقت مقدرات المنطقة لا لهدف، إلا خدمة لأطماعها ونياتها التوسعية. قد يتساءل الناس لماذا تستهدف إيران المملكة العربية السعودية؟ أعتقد أن استهداف إيران للمملكة ينطلق من أهمية موقع المملكة العربية السعودية السياسي والروحي والاقتصادي، فمنذ وصول الخميني إلى السلطة، كانت عيناه على المنطقة العربية، خصوصاً الخليج العربي، فالمملكة هي أكبر دولة خليجية، وعامل استقرار في المشرق العربي، ولها مكانتها السياسية والروحية في العالمين العربي والإسلامي بسبب خدمتها للمقدسات الإسلامية في مكة والمدينة، وتقديمها يد العون والمساعدة لكل من احتاج لها من الدول العربية والإسلامية، ولذلك ليس مستغرباً أن تكون الهدف الأول للأطماع الإيرانية، خصوصاً أنه بعد خروج مصر من الصراع العربي الإسلامي بسبب «كامب دافيد» أصبحت المملكة هي المركز الوحيد للتوازن العربي. لقد تغلغلت إيران في بعض الدول العربية كلبنان والعراق وسورية، وتحاول الآن استغلال الأوضاع الناشئة في مصر وتونس وليبيا، لتنفذ إلى هذه الدول من باب المساعدات الاقتصادية والإنسانية، إذ قامت ببعض المبادرات السياسية كزيارات مسؤوليها المتكررة لمصر وتونس وليبيا، ومعالجتها للجرحى الليبيين، وعرض المساعدات الاقتصادية على مصر، والانفتاح السياحي عليها، ولذلك تحاول أن تنفذ إلى هذه الدول، مستغلة أوضاعها الاقتصادية، والفرقة والضعف العربي هذه الأيام، لذلك ساعد عدم وضوح الرؤية العربية تجاه التعامل مع إيران، والضعف السياسي والاستراتيجي، إيران على التمدد في المنطقة، في محاولة منها لتحقيق أحلام الإمبراطورية الفارسية القديمة. أعتقد أن المملكة العربية السعودية بصفتها الدولة العربية الفاعلة الآن في الساحة العربية، سوف تنتهج إستراتيجية بناء القوة الرادعة السياسية والعسكرية، فالسياسة تتم من خلال توحيد مواقف ورؤية وتعامل دول الخليج العربي تجاه إيران، بحيث يكون الموقف موحداً وفاعلاً، ينطلق من المصالح الكلية لهذه الدول، يوازيها بناء قوة عسكرية تعتمد على قاعدة تصنيع عسكرية وطنية، حتى تصل إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي في المستقبل، وهذه هي اللغة الوحيدة التي تفهمها إيران، ولذلك الاتحاد بين دول الخليج هو الاستراتيجية الرادعة التي تؤسس عليها استراتيجية بناء القوتين السياسية والعسكرية. أعتقد أن من يتجسس على بلده ويتعاون مع العدو ويفشي أسرار بلده بقصد التخريب يجب أن يحاسب بقسوة ولا تأخذنا فيه الرأفة، لأن عمله يهدد البلد وكينونته وكل ما يتعلق، وأذكر هنا مقولة ل«هتلر» عندما سألوه من أحقر الناس عندك قال: «الذي ساعدني في احتلال بلده»، ولذلك الاحتقار والخزي لكل من يتجسس على بلده ويساعد العدو في النفاذ إليه، فالوطن هو البيت، هو الأم، هو الحضن، هو الرجولة، هو العزة. * أكاديمي سعودي. [email protected]