«إن أخطر ما تهددنا به البيوتكنولوجيا المعاصرة هو احتمال أن تغير الطبيعة البشرية، ومن ثم تدفعنا إلى مرحلة ما بعد البشرية من التاريخ». (فرنسيس فوكوياما ) لا مثيل لمجموعة من المفكرين المستقلين. فنفوسهم مليئة بالمعرفة والفضيلة، وهم آتون من آفاق إنسانية رحبة، من أجل تهيئة مجتمعاتهم لثورة فكرية دائمة، شرط أن تكون لديهم حرية التفكير في الزمن وليس واجب إنتاج دراسات بشكل طارئ. في حوار مع صديق لم أكن قد رأيته منذ اندلاع ثورة 25 يناير، تطرق الحديث بيننا إلى كتاب لفرنسيس فوكوياما، موضوعه البشرية وما يتهددها من أخطار. وعقدت العزم على اقتناء الكتاب، اعتقاداً مني بحداثة صدوره، فقد لفتني كثيراً غموض وروعة تعبير «ما بعد البشري»، ووجدت فيه تحريضاً لا يُقاوم على البحث والتأمل. لجأت كعادتي إلى الإنترنت، وكم كانت دهشتي - وخجلي بالتأكيد - أن ترجمة كتاب فوكوياما موجودة في مكتبتي، بعنوان: نهاية الإنسان: عواقب الثورة البيوتكنولوجية. سعدت جداً بالأمر، خصوصاً أن للمترجم أحمد مستجير تراجم أخرى في الحقل المعرفي نفسه، أبرزها ترجمته: «الجينوم البشري: القضايا العلمية والاجتماعية»، وهي تعالج مشروع الجينوم البشري من مختلف جوانبه النظرية والعلمية والقانونية والأخلاقية، في تغطية رائعة من مقالات اشترك في كتابتها عدد من الشخصيات العلمية أمثال: جيمس واطسون، ووالتر جيلبرت. خطورة مثل هذه الكنوز المُترجمة أنها تُعرفنا بموضوع غاية في الأهمية للمستقبل، فمشروع الجينوم البشري يهدف إلى فك الشيفرة الوراثية للإنسان، من خلال سعي إلى تحديد هوية تلك الجينات التي تحدد خصائصنا وأمراضنا، وتجعلنا بشراً. فالتكنولوجيا الحيوية قادرة على «حصار» مسار حياة الإنسان في القرن المقبل. هذه المقالة لم أكتبها بالطبع لفضح تقصيري في حق المعرفة فحسب، وإنما أيضاً لعرض ما تداعى إلى ذهني من أفكار، على خلفية هذا التقصير، كموضوع نقل المعارف المختلفة إلى لغتنا الأم، وما يتطلبه من ضخ أموال وجهود ضخمة، لترجمة تراث ومستحدثات الفكر الإنساني، وإخراج ثمار هذه العملية في طبعات لائقة، ونشرها بأسعار معقولة على أوسع نطاق. الترجمة مهمة ليس فقط لأنها تنقل إلينا معارف شتى من مجتمعات لها السبق، لكن لأنها تمكننا من فهم تلك المجتمعات وآلية التفكير والحياة فيها، فما يحدث عندنا ليس مرده تفاعلات داخلية فقط كما نتوهم. العاملون بالحقل الأكاديمي في بلادنا، قد لا يكون بمقدور غالبيتهم إضافة الكثير إلى ثرواتنا المعرفية، فلماذا لا نستفيد منهم في الترجمة، كل في تخصصه، بل ونشترط ذلك في ترقياتهم وإجازاتهم العلمية، خصوصاً أولئك الذين يذهبون في بعثات. العالم الغربي يعيش ربيعاً ثورياً حقيقياً، لا كربيعنا العربي، سيل الثورات عندهم لا ينقطع، كل يوم هناك الجديد. من هنا لابد لنا من إيجاد وسائل مبتكرة لحماية مبعوثينا من الانبهار بالغرب وتمكينهم من تجاوز لين المدح والانبهار إلى خشونة النقد الأنسني، فضلاً عن واجبنا في تبصيرهم بعواقب الانحشار في ميراثهم الحضاري، ونعلمهم أن يتخذوا من معارفهم، أياً كان مصدرها، للوثوب نحو المستقبل. وجود مناخ فكري قابل للاشتعال، قد لا يتحقق بالضرورة مع تدفق كل هذا الكم المُستهدف من الترجمات لروائع العالم ومستحدثات الفكر الإنساني، فهناك أمور أخرى لا بد من توافرها، كالدوريات والمجلات الفكرية والعلمية. ففضاؤنا الثقافي يعاني من فقر مدقع في هذه النوعية من المجلات والدوريات التي يخضع أغلب المتاح منها لاعتبارات ما أنزل الله بها من سلطان، فمن يشترط الشهرة والأسماء اللامعة في مجتمعات واهنة، ومن يشترط الوساطة والمحسوبية، ومن يطلب مالاً يُطلب لاعتبارات الترقيات الأكاديمية، إلى غير ذلك من مُفسدات الفعل الإبداعي. لابد أيضاً من توافر دور نشر حقيقية، أعني صاحبة رسالة، لا سوبر ماركت، لا تغالي في ثمن بيع الكتاب، ولا تفرط في مستوى لائق من جودة الطباعة ووضوحها. في مجتمعات كمجتمعاتنا لا بد من آلية مبتكرة يتم من خلالها حماية القارئ، ليس من الأفكار كما قد يظن الحمقى، لكن من رداءة عملية النشر والتوزيع. إن وجود مناخ فكري قابل للاشتعال قد لا يتحقق أيضاً مع توافر كل هذا، فهناك الكثير مما يلزم عمله. وقد يتطلب الأمر إعلاناً صريحاً ل «نكبة» مجتمعاتنا فكرياً.