هدده بالاعتقال، وأنذرها بالطعن في شرفها. اعتدى عليه بالضرب، وعراها. عذبه وكهربه، واغتصبها. هذه بعض «المميزات» التي تحصل عليها المرأة المصرية، والتي لا يمكن أن تنسب فقط إلى نظام جديد في مصر، لأن جذورها نبتت في ظل أنظمة سابقة رأت أن تكرّم المرأة بطريقة خاصة وتبجلها في شكل مختلف. شهر أيار (مايو) الجاري، ارتبط بأذهان بعض المصريات بما يسمى «الأربعاء الأسود»، وهو ذلك اليوم قبل 8 سنوات عندما وقف عدد من أعضاء حركة «كفاية» على سلالم نقابة الصحافيين، احتجاجاً على التعديلات الدستورية التي كان النظام السابق في صدد تمريرها بهدف توريث الحكم. وفيما كان الأعضاء الذكور والإناث يهتفون، ظهرت نوال علي محاولة اختراق السياج الأمني التي أبدع النظام السابق في فرضه على الفعاليات الاحتجاجية. لم تكن نوال عضواً في الحركة، ولم تأتِ للاعتراض على التعديلات، ولم تكن تخطط للهتاف. لكنها كانت سجلت في دورة لتعلم اللغة الإنكليزية في النقابة، وهو ما حاولت أن تشرحه للضابط الذي قال لها: «ادخلي على مسؤوليتك، هتضربي جوّه» (ستُضرَبين في الداخل). ومرّت نوال. والحقيقة أنها لم تضرب. فقط جرى التحرش بها من جانب مجموعة من البلطجية الذين تلقوا إشارة البدء من عدد من رموز «الحزب الوطني الديموقراطي» الذي كان حاكماً آنذاك، والذين أتوا لتأييد التعديلات «حباً في السيد الرئيس» (محمد حسني مبارك). ولاحقاً، قالت نوال في شهادتها: «كانت أيديهم تعبث بصدري، ويتحرشون بكل المناطق الحساسة من جسدي، مزّقوا ملابسي واعتدوا عليّ بأيديهم. وقعت بوجهي على الأرض وفوجئت بعدد كبير من هؤلاء البلطجية فوقي، يتحرشون بي مرةً ثانية ويعبثون بكل جسدي. بدأت الصراخ طالبةً النجدة وظللت أصرخ إلى أن فقدت الوعي. لم يكونوا يحاولون أن يضربوني، ولكنهم كانوا يعتدون علي جنسياً، وكانوا يمزقون ملابسي بكل وضوح». وما زاد الطين بلة أنها حين ذهبت نوال إلى النيابة، رفض المحققون تسجيل شهادة شهود العيان، بل إنها وزوجها ووالدتها تلقوا تهديدات واضحة وصريحة: إما سحب البلاغ أو «مش هيحصل طيب». لكن نوال، التي شعرت في ذلك اليوم بأن كرامتها وكيانها قد انتهكا انتهاكاً لا تصلحه إلا معاقبة الجناة، رفضت سحب بلاغها، الأمر الذي دفع زوجها إلى تطليقها لأن «الفضيحة» كانت أكبر مما يتحمل، وكذلك الحال في الجريدة المغمورة التي كانت تعمل فيها، ففصلتها عن العمل. لكن الحديث عن الانتهاك الجنسي، يُعد انتهاكاً للمجتمع «المحافظ» وخدشاً لحياء المواطنين الشرفاء الذين قد يتعاطفون سراً مع الضحية. فما إن يخرج الموضوع من حيز السرّ إلى العلن... حتى يصمت التعاطف لأن «الست المحترمة» لا تجاهر بمثل هذه الأشياء، و «ربنا أمر بالستر». وهذا ما فكّرت فيه نوال ملياً. فخرجت إلى وسائل الإعلام على رغم أنف التابو المنافق الذي يثرثر أصحابه ب «تكريم المرأة» وتبجيلها، شرط عدم المجاهرة باعتداءات أو انتهاكات ذات طابع جنسي. وحصلت نوال على ما حصلت عليه من تكريم وتبجيل، مرة بتصاعد نبرة الحملة الممنهجة بأنها من مزقت ملابسها بنفسها، ومرة عبر سؤال المجتمع المحافظ: «وهي إيه إللي وداها هناك؟»، وهو السؤال الذي توارثه المصريون المحافظون بالفطرة من نظام إلى آخر عقب الثورة. وبالطبع حُفظ التحقيق «لعدم الاستدلال على الفاعل»، فتبنت «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» (منظمة حقوقية) مهمة التقدم بشكوى إلى اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان. مرت ثماني سنوات على تلك الواقعة، حدث فيها الكثير. عدد من الصحافيات المصريات تحدى مفهوم المجتمع عن تكريم المرأة وتبجيلها، وخدش حياء من لا يحبون الاستماع إلى حكايات الاعتداءات الجنسية وإن كانوا لا يمانعون في حدوثها طالما بقيت سراً. ومضت «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» قدماً في تصعيد القضية. وماتت نوال قبل أربع سنوات بعد صراع قصير مع السرطان. وأصدرت اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان حكمها في كانون ثاني (يناير) الماضي، بإدانة الحكومة المصرية، وطالبتها بإعادة فتح التحقيق وتقديم تعويض مالي، وهو الحكم الذي لم يُنفَّذ أي من بنوده على رغم مرور أكثر من 70 يوماً. ولأن هناك من لا يزال يتذكر، سواء لأن ما تعرضت له نوال منقوش في الذاكرة، أم لأن ما خاضته الراحلة يؤلم البعض من أصحاب الضمائر التي يعذبها السكوت على تهريب النساء جنسياً أكثر مما يضايقها الجهر بما لا ينبغي التحدث عنه على الملأ في المجتمع المحافظ والمتدين، ولأن مسلسل الترهيب الجنسي مستمر، بل متزايد في عصر ما بعد ثورة ال «عيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، فإن وقفات يجري تنظيمها للحداد على رحيل نوال واستمرار الترهيب الجنسي للنساء والإصرار على مبدأ «هي إيه اللي وداها هناك؟». والأكيد أنه سيظل هناك من لا يرهبها التهديد بالاعتداء الجنسي، والإصرار على أن وجود النساء والفتيات في الشارع للاحتجاج والتظاهر والهتاف مستمر، وإن كان مكروهاً ممن هم في الحكم. وشهد العامان الماضيان تكرار هذا النمط من الاعتداءات، ومنها الاعتداءات الجنسية الجماعية المتكررة في ميدان التحرير وفي محيط الفعاليات الثورية، والاعتداءات على النساء في الشوارع وأماكن الاحتفال وغيرها. وهذا ما يشير إلى اتجاه يحرّض ضد وجود النساء في المجال العام، وليس فقط في محيط التظاهرات والفعاليات الاحتجاجية. وسواء كان الهتاف «قطع إيدك» أم «إمسك تحرش»... سيظل محتوى اللافتة المرفوعة على السلالم ذاتها، سلالام نقابة الصحافيين خير ما يلخص مجريات المرحلة: «قتلتونا وضربتونا وسحلتونا وتحرشتم بنا... واغتصبتونا ومهما فعلتم، الثورة مستمرة، وستنتصر بنا».