هناك روايات كتبت كي تعيش.. شخصيات من نسج الخيال تشعرنا بقوة وجودها مثل: هوزيه، راشد الطاروف، جوزفين، الجد ميندوزا الشخصية الملهمة والأجمل، بكل ظلالها السحرية الآتية من آداب أميركا اللاتينية. عن «ساق البامبو» وشخصياتها أتحدث. الرواية التي صدرت طبعتها الرابعة في أقل من عام، وتوّجت بجائزة الدولة التشجيعية، قبل أن تحقق إنجازاً غير مسبوق في تاريخ الرواية الكويتية بإعلان فوزها المستحق بجائزة «البوكر» العربية. ما يؤكد أنها ستبقى علامة فارقة، فهي رواية جديرة بأن يؤرخ بها، ولها. وبلا مبالغة فقد دشّن كاتبها الموهوب سعود السنعوسي، لجيل جديد وكتابة كويتية مختلفة. وفيما يلقي قراءة في البناء السردي ل«ساق البامبو»: يحيلنا غلاف رواية «ساق البامبو» الخارجي إلى اسم المؤلف الحقيقي الكويتي سعود السنعوسي، الذي قد نملك معلومات دقيقة أو غير دقيقة عنه، وقد لا نعرفه على الإطلاق. ثم يتجاهل الغلاف الداخلي اسم السنعوسي - تماماً - ويحيلنا إلى اسم فيليبيني هو «هوزيه ميندوزا» الذي لا نعرف عنه أي شيء، لكن عبر قراءة الرواية ندرك أنه بطلها وراويها، وتتشكل صورته شيئاً فشيئاً عبر التلقي، وهو يقع في منطقة ملتبسة بين المؤلف الضمني/المؤلف الحقيقي. إلى جانب كونه بطل الرواية. وهي حيلة، لا يتنصل بفضلها السنعوسي من مسؤوليته عن النص، بقدر ما يدفعنا إلى قراءة تلك العمارة الروائية بمعزل عن ربطها بشخصيته وسيرته الذاتية. متخلصاً بذلك من آفة القراءة الإسقاطية التي ترى في كل رواية مرآة عاكسة لكاتبها، أو باعتبارها مرتعاً خصباً للنبش في سيرته. كذلك فإن مثل هذا البناء المستقل لمفهوم المؤلف/السارد، يمنح النص بعداً توثيقياً، وكأنه نص/وثيقة، لا مجرد رواية تخييلية، وهو ما يحيلنا إلى تراثنا العربي المثقل بسلاسل «العنعنة» وما تشي به من دقة وتوثيق وموضوعية. وللتمادي في تلك الحيلة يستعين تالياً بشخصية المترجم «إبراهيم سلام» الذي نجد تعريفاً به في الصفحة الأولى، ثم مقدمة تقع في صفحتين منسوبة إليه، لإحكام هذا الإطار الوهمي. ثمة اسم آخر يتمثل في كون النص «مراجعة وتدقيق: خولة راشد»، التي سنعرف عبر التلقي أنها الأخت غير الشقيقة لبطل الرواية، وكان بالإمكان أن تكتب خولة بنفسها «التعريف الخاص بالمترجم» بدلاً من تركه هكذا معلقاً بلا سارد ينسب إليه. هذا الإطار الخاص بصوت السارد، حقق وهم الموضوعية والتوثيق عبر هذا الفصل التام، لشبح المؤلف الحقيقي واتخاذه مسافة من النص، وفي الوقت نفسه ورط المتلقي في علاقة حميمية عبر استخدام ضمير «الأنا»، إذ يروي البطل حكايته من دون وساطة من أحد: «اسمي Jose، هكذا يُكتب. ننطقه في الفيليبين، كما في الإنكليزية، هوزيه. وفي العربية يصبح، كما في الإسبانية، خوسيه. وفي البرتغالية بالحروف ذاتها يُكتب، ولكنه ينطق جوزيه. أما هنا في الكويت، فلا شأن لكل تلك الأسماء باسمي إذ هو.. عيسى!» لقد هيمن صوت «هوزيه» أو «عيسى» هيمنة مطلقة على السرد، ورأينا عبر عينيه عشرات الشخصيات، بكل ما يعتمل في دواخلها، وليس فقط وصفها خارجياً أو أثناء الفعل، وحتى الجزء المتعلق بشخصية والده الكويتي «راشد الطاروف» قبل مجيئه إلى الحياة، الذي روته له أمه الفيليبينية جوزفين، أعاد «عيسى» روايته نقلاً عنها، بطريقته الخاصة. ما يعني أن جسد النص، ارتبط مركزياً بشخصية هوزيه بطلاً وسارداً، من دون أن يغلق الباب أمام ساردين آخرين، شاركوا في السرد بدرجات متفاوتة أو بطرق غير مباشرة. تم تقسيم الرواية التي تقع في 400 صفحة من القطع المتوسط إلى خمسة أجزاء وخاتمة، الأول: «عيسى قبل الميلاد» 40 صفحة وثمانية فصول، ثم «عيسى بعد الميلاد» 75 صفحة و20 فصلاً، ثم «عيسى التيه الأول» 50 صفحة و11 فصلاً، ثم «عيسى.. التيه الثاني» 110 صفحات و21 فصلاً، ثم «عيسى.. على هامش الوطن» 90 صفحة و19 فصلاً، وأخيراً الخاتمة «عيسى إلى الوراء يلتفت». قد يوحي هذا التقسيم، المتأرجح ما بين العنونة بالكلمات والعنونة بالأرقام، وما بين الأجزاء والفصول، بشيء من التعقيد. وإن بدت الأجزاء الخمسة موازية لسيرة الإنسان ما بين الطفولة، الصبا، الشباب، الكهولة، والشيخوخة. وكأن بالإمكان اختزال كل هذه الأجزاء والفصول في قسمين أساسيين: نشأة عيسى في الفيليبين، وعودته إلى الكويت، تسبقهما مقدمة في نحو 40 صفحة وخاتمة قصيرة. كما أن الفصول الثمانين، بمتوسط خمس صفحات لكل فصل تقريباً، هي أقرب إلى المشهدية، فنحن إزاء ثمانين مشهداً تم اختيارها بعناية، نتتبع فيها مسيرة هوزيه من قبل الميلاد ورحلته في عالم الذر من الأب إلى الأم، ثم رحلاته المتتالية المكانية/الروحية. وعلى رغم أن هذا التتبع يبدو متماشياً مع الترتيب الزمني المنطقي والواقعي، لكنه حافل بالفجوات، والاستعادات التي تثري الخريطة الزمنية للنص. وهذا المسار الطولي الممتد والمتابع لشخصية البطل وفصول من حياته، وما عايشه من أحداث، ومفاجآت، وصدمات، يعيدنا إلى بنية الرواية الكلاسيكية بالمعنى الدقيق للكلمة. حرص الكاتب على تشييد عمارة روائية حافلة بالأحداث، والأماكن والتفاصيل، والشخصيات، بكل التشعبات الزمنية، ما دفعه إلى اقتفاء أثر الكلاسيكيين الكبار، ليقع في ما أسميه «التشبع» أو «الامتلاء»، فهو يقدم كل الوصف الكافي لأدق التفاصيل والانفعالات والأماكن، إلى درجة التشبع، وليس التطويل والإملال. ويفعل الأمر ذاته على مستوى رسم الشخصيات، فكل شخصية مرسومة بدقة ومشبعة، لا لبس فيها ولا فجوات ولا أسئلة معلقة. وكذلك متتالية الأحداث، صغرت أو كبرت، ليتشكل جسد النص متكاملاً، سلساً. وهذا مفهوم أن يطمح السنعوسي الروائي الشاب إلى الكمال والاجتهاد في نصه، وتجنب أية ملاحظات قد تقال هنا أو هناك، وتوظيف أدواته كافة كروائي في بناء النص. فمثلاً نقرأ: «كان الوقت متأخراً، لا يوجد أحد على الشاطئ سوى رجال الحراسة ومجموعة من النزلاء يجلسون في نصف حلقة على الشاطئ المظلم، كأنهم أشباح، لا يُرى منهم سوى قمصانهم البيضاء. الأنوار خافتة، وأنوار غرف المنتجع من خلفي مطفأة، ما جعل النجوم تبدو أكثر وضوحاً». وهي في رأيي عملية مضادة لبلاغة الاختزال، وترك فجوات كي يملأها المتلقي، وتكرس هيمنة السارد العليم بكل شيء. ولذلك يبدو النص قابلاً لأن يتخفف قليلاً من بعض الوصف، بعض الأحداث، وبعض الفصول مثل الفصل 19 من الجزء الثاني الذي يتناول قصة فولكلورية عن حبة الأناناس، كان يمكن التعبير عنها في بضعة أسطر. وعلى رغم أن المشهدية تتحكم في بناء الفصول، فمثلاً في «ف1» من «ج4» نتابع مشهد وصول عيسى إلى مطار الكويت وانطباعاته، إلا أنها مشهدية متدفقة أو تميل أكثر إلى السردي وليس الوصفي، عبر تلك الحركة المتوترة بين «ما يُرى» وانطباع «الرائي» عنها: «دسست كفي في جيب البنطلون، وقبل أن أخرج منه الجواز صرخ بي الرجل بطريقة فظة صعقتني». تتموضع رواية «ساق البامبو» الصادرة عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) ضمن منظومة طويلة من الروايات العربية المهمومة بسؤال الهوية والعلاقة مع الآخر (الأجنبي)، بدءاً من «عصفور من الشرق»، مروراً ب«الحي اللاتيني»، و«موسم الهجرة إلى الشمال»، وحتى «البيضاء». لكن، وإذا كانت معظم هذه الروايات انشغلت تحديداً بالآخر الكائن في الغرب، رمز القوة والاستعمار والحرية، واستلابه للأبطال الشرقيين بكل ما يتيحه من متع أو إغراءات. فإن «ساق البامبو» اتجهت إلى آخر مختلف، يقبع في أقصى الشرق، وهو مثلنا ضحية «الآخر الغربي». ولديه الحيرة ذاتها تجاه هويته المتعلقة بلغته ودينه وعاداته. إننا هنا إزاء «عيسى/هوزيه» منقسماً على ذاته، في مرآتين كلتيهما تعكسه «ضحية» لا بطلاً. عبر هاتين المرآتين، قدّم لنا رصداً شاملاً لجغرافية الكويت - الفيليبين، وأعني هنا الجغرافية الطبيعية والثقافية والاجتماعية والدينية. وكان من الواضح إتقان السارد وتدقيقه ومعايشته لكل معلومة تخص «الفيليبين» على رغم إدراكنا التام أن المؤلف كويتي.. بينما معالجته للجغرافية الكويتية، وإن لم تخلُ من جرأة وشجاعة، لكنها في بعض الأحيان مالت إلى المواربة والتلميح لا التصريح. وبغض النظر عن أية ملاحظات قد تُقال، فإن نص «ساق البامبو» عمل كلاسيكي مهم، من دون أن يعني ذلك افتقاره إلى مساحات التجريب، أو عدم ثرائه وإتقانه، والرواية في حقيقتها تجسّد «سيقان البامبو» الطافية في أرواحنا جميعاً.. والقابلة لأن تنمو في أية تربة ثم تشكو آلام غربتها واغترابها.