لعل واحدة من الملاحظات الأساسية التي تفرض ذاتها في مهرجان كان السينمائي بالنسبة إلى أفلام هذه الدورة، حتى الآن على الأقل، تكمن في ذلك الفصل البيّن بين السياسة والحكاية فيها. فالفيلم السياسي هذه المرة فيلم سياسي من دون لف أو دوران... وللحكاية الخالصة مكانها المحفوظ، أو هكذا كانت الحال حتى عرض الفيلم العربي الروائي الطويل الوحيد المعروض في أي تظاهرة أساسية من تظاهرات المهرجان. وهو بالطبع فيلم «عمر» للفلسطيني هاني أبو اسعد. مجدداً هنا، يقدم أبو أسعد في فيلمه الثالث هذا خلطة شديدة التوازن بين السياسة و «الحكاية» المستقاة مباشرة من الحياة، ونعرف طبعاً أن هذا نادر الحدوث في السينما الفلسطينية في شكل عام، حيث اعتاد السياسي أن يغلب. ولنسارع هنا إلى القول إن الأمر جاء في مصلحة الفيلم ليحمل هذا التجديد، وإن كان التجديد الأسلوبي الذي كنا ننتظره من المخرج بعد «الجنة الآن»، لا يزال بعيداً. ولا يزال أبو أسعد يفضل عليه لغة السرد الكلاسيكي التي تبدو لديه، على أية حال انسيابية تمسك المتفرج دافعة إياه إلى انتظار القلبات المسرحية – وهي كثيرة وفق المخرج في معظمها - من جهة، وإلى التفاعل مع سيكولوجية الشخصيات من جهة أخرى. إذ بدا واضحاً أن المخرج كتب أدوارها وحواراتها في شكل جيد. ثم في شكل لا يقل جودة، عرف كيف يدير ممثليه، ولا سيما الرئيسيين منهم – عمر وناديا وأمجد في شكل خاص وضابط الأمن الإسرائيلي في شكل أخصّ. كل هذا كان لا بد من الإشارة إليه هنا كانطباع أول، بعد عرض الفيلم أمس في تظاهرة «نظرة ما» بنجاح مدهش، عبّر عنه تصفيق صاخب بدا واضحاً هذه المرة أنه ليس تصفيق مجاملة لفلسطين وسينماها، بل أيضاً لسينمائية الفيلم في حد ذاتها... فهي سينمائية واضحة، ولو بدت أدبية بعض الشيء، وفي بعض الأحيان عاجزة عن إقناعنا ببعض المواقف، ولا سيما «تقلبات» عمر و «قذارة» أمجد و «استسلامية» ناديا، و «سذاجة» الضابط الإسرائيلي. مثل هذه المواقف – التي للغرابة بني عليها الفيلم كله – ظل مفتقراً إلى المنطق في شكل أو آخر، في عمل بُنِيَ من ناحية كقصة حب، ومن ناحية ثانية كرصد للحياة الاجتماعية المتأرجحة بين عواطف الأفراد ونضالهم ضد قوات الاحتلال، والمطاردات اليومية عبر جدار يحول بين العواطف وإرواء ظمئها مولداً رغبة حتمية في النضال. وهذه هنا حال عمر بالتحديد، الفرّان الذي يضطر لعبور الجدار والتعرض للرصاص القاتل كي يلتقي حبيبته. وهو حين تذلّه من قبل دورية إسرائيلية يجد نفسه مساقاً إلى النضال مشاركاً في عملية اغتيال جندي معادٍ. وحين يُقبَض عليه يُعذَّب ثم يغرى بالتعاون مع استخبارات العدو. ولكن، هل تراه رضخ فعلاً للإغراء؟ سنعرف في النهاية... النهاية التي «حفظ» فيها السيناريو شرف العاشقين في خبطتين مسرحيتين أخيرتين. لكن الثمن كان كبيراً دفعته ناديا من دون أن تدري، قبل أن يدفعه عمر في «فعل» أخير بدّل من دوستويفسكية شخصيته – في لحظات بدا عمر شبيهاً وإن في شكل كاريكاتوري بعض الشيء بأبله دوستويفسكي في الرواية الشهيرة - وطمأن المتفرج إلى نصاعته الوطنية... وكذلك إلى أن هاني أبو أسعد لم يكن هو نفسه «أقرب إلى التعاون» حين أضفى في سياق الفيلم شيئاً من إيجابية كان من شأنها أن تولّد تعاطفاً ما مع الضابط الإسرائيلي... ولو في تواطؤ خفي – إنساني إلى حد ما – ضد الخائن الحقيقي والكاذب الحقيقي الذي، لمرة نادرة في هذا النوع من السينما، سيخرج في النهاية مع الجائزة الكبرى!