في أوائل شهر أيار (مايو) من عام 2013، اقترضت عملاقة تصنيع أجهزة التواصل، شركة «أبل»، 15 بليون دولار، وهي تملك بصفة ودائع مالية أكثر من 145 بليون دولار. فلماذا اقترضت «أبل» 15 بليوناً وهي تحتفظ بأكثر قليلاً من 145 بليون دولار؟ أولاً: شركة أبل ليست الوحيدة التي اقترضت وهي تملك من الودائع أضعاف ما اقترضته، فمن الشركات الأخرى التي اقترضت وودائعها المالية ك «أبل» أضعاف ما اقترضته، عملاق أداة البحث والتواصل الإلكتروني شركة «غوغل»، وشركة صناعة الأدوية والأجهزة الطبية «جونسون»، وشركة «جنرال إلكتريك»، وشركة «مايكروسوفت»، وشركة «إميرسون» للإلكترونيات، وشركة «دل» لصناعة الكومبيوتر... وغيرها، مما يزيد على 100 شركة أميركية من الشركات المليئة مالياً. ثانياً: حينما نقول «اقترضت» فهي لم تقترض بمعنى أنها ذهبت لمصرف تجاري أو لمجموعة من المصارف التجارية طالبة للقرض، وإنما اقترضت جميع هذه الشركات المليئة من عامة المتداولين في أسواق المال فاستطاعت الحصول على كل ما احتاجت إليه من السيولة ببيع الصكوك أو السندات. والصكوك أو السندات هي أوراق مالية تَعِدُ من يشتريها بدفع المبلغ المدون في متنها إذا حل أجلها. والثمن الذي يدفعه المشترون حالياً للحصول على المبلغ المدون آجلاً هو الذي يقرر مستوى الفوائد أو العمولات المدفوعة. فلو دفع مشترٍ مثلاً لسند أو لصك مبلغ 95 آنياً ليحصل على مبلغ 100 بعد سنة، فمعنى هذا أن عائد المشتري 5 في المئة وتكاليف البائع أو المقترض أيضاً 5 في المئة. ثالثاً: ما دام الهدف هو توفير السيولة حالياً، لماذا لم تذهب هذه الشركات مباشرة إلى المصارف التي تتعامل معها مباشرة، وتحصل على قرض أو قروض بالمبلغ الذي تحتاج إليه؟ بالدرجة الأولى لأن الاقتراض بإنشاء الصكوك أو السندات وبيعها في السوق المالية، أرخص من ناحية تكاليف القروض وإجراءات إصداره وبيعه أسهل، إذ يتم البيع في أسواق مالية حرة يتنافس من خلالها عدد هائل من المستثمرين، وهم الذين يتحملون تكاليف البحث والاستقصاء وتقدير احتمالات الوفاء حينما يحل أجل السند (الصك)، سواء بعد أشهر أم بعد عشرات السنين، إضافة إلى أن كل من يشترون الصكوك بمختلف آجالها يستطيعون تسييلها بسرعة مذهلة متى احتاجوا إلى تسييلها. وتتغير أسعار بيع السندات، على رغم ثبات المبلغ الأسمى المدون في متنها، وفقاً لتغيرات مستويات الفوائد ومستويات التضخم. فكلما زادت أسعار الفوائد أو مستويات التضخم، كلما أدى ذلك إلى انخفاض أسعار السندات. فالذي يستطيع أن يحقق عائداً يتجاوز 7 في المئة بإيداع أمواله في ودائع آمنة، لن يشتري سنداً بمبلغ يزيد على 93 لكل مئة يحصل عليها بعد سنة. والنتيجة نفسها تحصل إذا ارتفعت مستويات التضخم. الآن نأتي إلى السؤال الأهم: لماذا يقترض أغنياء يملكون مبالغ مالية هائلة سائلة أو من السهل تسييلها؟ والجواب بإيجاز شديد: هو نظام الضرائب في أميركا، إضافة إلى مستويات السيولة الهائلة التي وفرتها المصارف المركزية في دول اليورو وفي أميركا وفي اليابان للمنشآت المالية الكبرى بتكاليف متدنية لا تزيد حالياً على نصف واحد في المئة. فمثلاً، شركة «أبل» التي تحتفظ بودائع بنحو 145 بليون دولار لا تحتفظ بأكثر من ثلثها في أميركا، والباقي مودع في منشآت مالية في أوروبا وآسيا وبقية دول العالم خارج الحدود الأميركية. ونظام الضرائب الأميركي يقضي بأن تدفع الشركات على الأقل نحو 10 في المئة وأحياناً أكثر من 20 في المئة من مبالغ صافي الدخول التي تحققت من العمليات الخارجية للخزانة الأميركية إذا دخلت أميركا. وبعض الدول التي تودع في منشآتها المالية أرباح العمليات التي تمت على أرضها لا تتقاضى من الضرائب عليها أكثر من 2 في المئة. إذاً من الواضح أنه من الأفضل اقتصادياً لشركة «أبل» وأمثالها أن تدفع في مقابل ما تبيعه من سندات أو صكوك بكلفة تراوح بين 4 و5 في المئة، بدلاً من تحمل على الأقل 10 في المئة من ضرائب أميركية إذا حولتها إلى حسابها في أميركا مضافاً إليها أحياناً 2 في المئة من الضرائب الأجنبية. أما الذي يجعل المنشآت المالية تتنافس في الأسواق المالية على شراء سندات شركة «أبل» وأمثالها من دون أن تحصل على عائدات تتجاوز 5 أو 4 في المئة وأحياناً أقل، هو ما وفرته لها المصارف المركزية في أميركا وفي دول اليورو وفي اليابان من سيولة هائلة لا يكلفها الحصول عليها أكثر من نصف واحد في المئة. ويتلخص جوهر الموضوع بأن نظام الضرائب يشوّه اتخاذ القرارات المالية، وهو ما يجعل الاقتراض بإنشاء السندات (أو الصكوك) أجدى اقتصادياً من التمويل الذاتي. ومستوى السيولة الذي وفرته المصارف المركزية لمثيلاتها التجارية والاستثمارية جعل من المجدي لها شراء الصكوك أو السندات بعائدات متواضعة، لأن تكاليف حصول المنشآت المالية على السيولة من المصارف المركزية أكثر تواضعاً. * أكاديمي سعودي