تشكل اكتشافات الغاز في شرق البحر المتوسط فرصة اقتصادية مهمة جداً للدول المعنية، لكنها تثير مشاكل جيوسياسية للدول المعنية نتيجة حالات الاحتلال العسكري لأراضي الغير، وعدم ترسيم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة أو الاتفاق عليها قبل بدء الاستكشاف، والنزاعات الإقليمية، والتطورات السياسية والاقتصادية السلبية في بعض الدول المعنية. في 1999، منحت السلطة الفلسطينية حق الاستكشاف والتطوير في مياه غزة لكونسورتيوم بقيادة «بي جي» البريطانية وصندوق الاستثمار الفلسطيني و «اتحاد المقاولين» في أثينا، ووافقت إسرائيل على الاتفاق بشرط أن تحصل على الغاز «الفائض» لسوقها المحلية. وفي 2002 اكتشِف حقل «غزة مارين» باحتياط يقدر بنحو تريليون قدم مكعبة، تكفي استهلاك القطاع ل 15 سنة، لكن الحقل لم يُطوَّر حتى اليوم إذ أصرت إسرائيل على مد أنبوب منه إلى عسقلان لتأخذ هي ما تحتاجه من غاز وبأسعار منخفضة، قبل نقل بقية الغاز إلى قطاع غزة. ورفضت السلطة الفلسطينية والشركة البريطانية المطالب الإسرائيلية، وتوقفت المفاوضات في 2007، وشكل الخوف الإسرائيلي من حصول حركة «حماس» على ريع الغاز، ومن ثم استعمال هذه الأموال في عمليات «إرهابية» السبب الرئيس وراء شروطها التعجيزية. لكن المفاوضات استؤنفت في أيلول (سبتمبر) 2012 بوساطة من الولاياتالمتحدة. ولا تزال هذه المفاوضات جارية، لكنها متعثرة وبطيئة ولم تحقق أي نتيجة حتى الآن. وتقدر الفترة الزمنية لتطوير الحقل، في حال الاتفاق على ذلك، بثلاث إلى أربع سنوات. ويقع «غزة مارين» على بعد نحو 35 كيلومتراً عن ساحل غزة وفي مياه ضحلة نسبياً يساوي عمقها 600 متر تحت سطح البحر. وبعد اكتشاف «غزة مارين» بدأت الاكتشافات الإسرائيلية من قبل «نوبل إنرجي» الأميركية بالشراكة مع شركات نفطية إسرائيلية في المياه الجنوبية المحاذية للمياه الفلسطينية، لكن احتياطات هذه الحقول الجنوبية كانت ضئيلة نسبياً. وبعد عقد تقريباً، اكتشِفت حقول الغاز المهمة بمحاذاة المياه اللبنانية، خصوصاً «تامار» و «ليفاياثان». ويقدَّر احتياط الغاز في إسرائيل حالياً بأكثر من 30 تريليون قدم مكعبة، غالبيتها من «ليفاياثان». وتسعى إسرائيل إلى استقطاب شركات عالمية، فالشركة الأجنبية الوحيدة التي استثمرت حتى الآن، هي «نوبل إنرجي». وتقدمت شركات دولية أخيراً، وفي شكل محدود جداً، للاستثمار في المياه الإسرائيلية على ضوء اكتشافات «نوبل إنرجي». لكن مقارنة بالمشاركة الأوسع للشركات الدولية في قبرص والاهتمام الأكبر بلبنان، تطرح الأوساط الإسرائيلية سؤالين: هل يمكن استقطاب شركات دولية عملاقة، ومن ثم زيادة الفرص في اكتشاف حقول جديدة؟ وهل يمكن خرق المقاطعة العربية لإسرائيل والتي التزمت بها الشركات النفطية الدولية حتى الآن، خوفاً من ردود فعل الدول النفطية العربية حيث المصالح أوسع؟ وأرسلت إسرائيل وفداً إلى نيويورك أخيراً لجس النبض واستكشاف ردود فعل الشركات. وفي قبرص، اكتشفت «نوبل إنرجي» أواخر 2012 حقل «أفروديت» في المنطقة الاقتصادية الخالصة في المياه الجنوبية الشرقية للجزيرة، على بعد نحو 34 كيلومتراً عن حقل «ليفاياثان». ويبلغ احتياط الحقل نحو تسعة تريليونات قدم مكعبة من الغاز ويقع على عمق نحو سبعة آلاف متر تحت سطح البحر، ويقدّر أن يكفي هذا الاحتياط استهلاك الجزيرة من الطاقة لربع القرن المقبل، بالإضافة إلى توفير كميات للتصدير. وتواجه قبرص مشكلة نتيجة الضغوط التركية عليها. فلدى تركيا مطالب، منها المشاركة في الثروة الطبيعية في المياه القبرصية نيابة عن القبارصة الأتراك في الجزء الشمالي من الجزيرة المحتل من قبل القوات التركية منذ 1974، وتضغط تركيا على الدول المجاورة لعدم رسم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص إلا بعد الأخذ في الاعتبار مصالح الجزء المحتل من الجزيرة، ومنح شركات النفط التركية حق الاستثمار في المياه المحاذية لذلك الجزء. ويعتقَد أن تركيا تطمح إلى الحصول على إمدادات غاز قبرصية بأسعار مخفضة، والضغط على نيقوسيا لدفعها إلى التفاوض على توحيد الجزيرة. واستعملت تركيا وسائل كثيرة للضغط على قبرص، فمقاتلاتها حلقت فوق المنصة البحرية ل «نوبل إنرجي» لردعها عن الاستكشاف، وتصدى الطيران الإسرائيلي لهذه الطلعات، لكن قبرص أصرت على سياستها، كما استمرت «نوبل إنرجي» في الاستكشاف. واتبعت تركيا سياسة جديدة في الضغط، وذلك بمقاطعة أي شركة نفطية تتعاقد للاستثمار في قبرص. وقررت أنقرة منع «إيني» الإيطالية من العمل في السوق التركية المزدهرة. وينتظر الآن قرارها حول «توتال» الفرنسية التي فازت برخصة للتنقيب في المياه القبرصية. وستؤثر الأزمة المالية الحالية في قبرص في دور الحكومة في الاستثمار في المشاريع البترولية. وعانى القطاع البترولي اللبناني طيلة السنوات الماضية من وهن المؤسسات السياسية والتأخير في اتخاذ القرارات. لكن لبنان اتخذ قراراً مهماً قبل سنوات، يتعلق بالمضي قدماً بالمسوح السيزمية الثنائية والثلاثية الأبعاد في مناطقه البحرية، ما أعطى مؤشرات إيجابية عن احتمال توافر البترول في المياه اللبنانية، لكن لا يمكن أن تعطي هذه المسوح من دون أي حفر لآبار استكشافية أرقاماً محددة عن حجم الاحتياط كما يُتداول في لبنان. ويواجه لبنان مسألة أهم، هي ضرورة الاتفاق مند الآن وقبل أي اكتشافات، على تعديل الدستور لينص على أن البترول ملك للشعب اللبناني كله، لا لمكون منه يمكن أن يتواجد البترول في مناطقه. وهذا التعديل الدستوري ضروري على ضوء التجربة الصعبة التي تمر بها دول نفطية، كالعراق، حيث تنتعش الطائفية. ويواجه لبنان، مثل العديد من الدول العربية، مشكلة الفساد، وهو التعليق الأول الذي يردده اللبناني عند الحديث عن احتمال أن يصبح لبنان دولة بترولية. لكن لبنان استطاع أن يتعامل بحكمة مع خلاف حدودي حول المنطقة الاقتصادية الخالصة الجنوبية. وتشير المعطيات المتوافرة إلى أن وزارة الخارجية الأميركية أرسلت وفداً للتوسط حول هذا الموضوع، واقترح الوفد أن يحصل لبنان على ثلثي المنطقة المتنازع عليها، بينما يبقى الثلث المتبقي منطقة متنازعاً عليها لا يحق للبنان أو إسرائيل الاستثمار فيها إلى حين حل النزاع. ويبدو أن القوى السياسية اللبنانية متفاهمة حول الأمر، لكن أي موقف إسرائيلي لم يصدر بعد. المهم أن المخاوف من الخلاف الحدودي تبددت، ولن تشكل عائقاً أمام استثمارات الشركات الدولية التي تبدي اهتماماً واسعاً بلبنان، إذ تقدمت 46 شركة بطلبات للاستكشاف. مستشار لدى نشرة «ميس» النفطية