هل أفلس الربيع العربي... سينمائياً على الأقل؟ في العامين الفائتين شكّل حضور عدد لا بأس به من أفلام آتية من بلدان ما سمّي يومها الربيع العربي، حدثاً أساسياً في مهرجان «كان» السينمائي... وكان حضوراً سرعان ما راح ينتشر في العديد من المهرجانات السينمائية الأخرى في مشارق الأرض ومغاربها. فتحت المهرجانات أذرعها لاستقبال عشرات الشرائط الآتية، وثائقية بخاصة ولكن روائية في بعض الأحيان أيضاً، تحاول أن تحكي قصص الربيع وما قبل الربيع. وراحت تلك الشرائط تلقى من التعاطف ما غطى أحياناً على ضعف بعضها وتهافت معظمها. في الأحوال كافة بدا الهم الأيديولوجي والعاطفي في ركابه طاغياً... وفي ركبه أعيد اكتشاف سينمات وأفلام والتفاعل مع أحداث وبلدان. كما أشرنا كان «كان» قبل الماضي، الشرارة والمنطلق فصار العامان التاليان ملعباً لسينما اعتبرت جديدة. أما اليوم فيبدو أن هذا كله بات جزءاً من ذكريات الماضي وبخاصة إن حكمنا على الأمور من خلال برنامج «كان» لهذه الدورة: لم يأت أي فيلم من مصر ولا من تونس ولا حتى من سوريا أو ليبيا أو المغرب أو الجزائر...ولا حتى من تركيا التي كان يمكن، بشكل أو آخر، التعاطي معها بوصفها «حاضنة ما» لذلك الربيع، حتى وإن كانت لها، هي، خصوصيتها. أما عن لبنان فأيضاً لا شيء، اللهم إلا إذا اعتبرنا «الاحتفال» الذي يقام بداية الأسبوع المقبل لذكرى مرور عشرين عاماً على رحيل السينمائي مارون بغدادي، حضوراً لافتاً للبنان في المهرجان (!). ربما في الهوامش حسناً، ربما نكون هنا على شيء من المبالغة في نظرتنا السلبية، وربما يكون هناك عرض لفيلم مصري أو شرائط قصيرة من سوريا أو لبنان في هذه الزاوية الخفية أو تلك...أو حتى في سوق الفيلم، لكن هذه ليست على علاقة بالمهرجان، على عكس ما يشيع أصحاب العلاقة عادة. وحتى تلك الأجنحة الفخمة المكلفة التي تقام لبلدان عربية في القرية الكونية، ليست من المهرجان في شيء، حتى لو أثارت صخباً إعلامياً من حولها وقدمت وجبات غذاء مجانية رشوة للصحافيين ومن شابههم. هذه كلها ليست «كان» ولن تكون جزءاً أساسياً من مهرجانها السينمائي. «كان» هو الأفلام والجمهور والنقاد لا أكثر ولا أقل... «كان» هو أهل السينما الذين هم هنا لمشاهدة جديد الإبداع في هذا الفن الذي يعرف دائماً كيف ينهض من رماده. والآن إذ نقول هذا ونسائل المهرجان باحثين عن حضور منطقتنا فنياً وإبداعياً فيه، لن نجد أثراً للربيع العربي، لكن هذا لا يعني أن منطقتنا نفسها ليست حاضرة. على العكس إنها حاضرة بشكل مشرّف على ضآلة الكمية. وربما تكون حاضرة بنظرة ربيعية أيضاً...ولكن ليس من البلدان «الربيعية» التي ذكرناها. فالجديد هذه المرة يأتي من فلسطين ومن السينما الإسرائيلية كما من ايران وتشاد وكردستان العراقية...وهو يأتي متنوعاً يحمل همومه، أو يحمل دلالاته على الأقل. الانفصال إلى الماضي وبما أن المسابقة الرسمية هي التظاهرة الأهم، لا بد أن نبدأ بها حيث نجد فيها حضوراً لافتاً ومتوقعاً بقوة للمخرج الإيراني أصغر فرهادي الذي يتبارى على السعفة الذهبية تسبقه سمعة أفلامه السابقة التي كانت وضعته في مكانة مميزة وأكسبته جوائز مهرجانية لافتة («بصدد إيللي» و«الانفصال»)، ما جعله هذه المرة ينحو نحو مواطنه عباس كيارستمي ليحقق جديده «الماضي» في فرنسا. فهل سيكون فيلماً إيرانياً أو فيلماً فرنسياً؟ من الصعب الإجابة منذ الآن، وإن كان معجبو أفلام فرهادي يضعون أيديهم على قلوبهم هم الذين لا يزال يحيّرهم حتى اليوم فيلما كيارستمي الأجنبيان (صورة طبق الأصل» و«مثل عاشق») أين وكيف يصنفونهما! في انتظار الوصول إلى يقين يتناول تجربة فرهادي الذي كان داخل ايران من أكثر مخرجيها تعبيراً عن همومها وذهنيات أهلها، يمكننا أن نشاهد في «أسبوعَي المخرجين» تجربة إيرانية أخرى تحمل توقيع كافييه بختياري، صورت هي الأخرى في المنفى بعنوان «الهبوط» ولكن عبر حوارات المنفيين بصدد إيران نفسها. الفيلم الوحيد الآخر المنتمي إلى «منطقتنا» وينافس فرهادي في المسابقة الرسمية هو التشادي - إنما بإنتاج ورعاية «فرنسيين» - هو «غريغري» لمحمد صالح هارون الذي كان سابقه «الرجل الذي يضحك» فاز بجائزة في المسابقة نفسها قبل عامين. هذه المرة أيضاً يدنو هارون من الواقع الاجتماعي البائس لمواطنيه ولكن من خلال حكاية شاب في الخامسة والعشرين يريد أن يكون راقصاً على رغم أن إحدى ساقيه مشلولة...وهو يبذل في سبيل تحقيق حلمه جهوداً جبارة تكاد توصله إلى مبتغاه لولا أن عمه يمرض موكلاً إياه بالعمل مهرباً للبنزين للحصول على لقمة العيش. وكي لا نبتعد هنا كثيراً عن المسابقة الرسمية، لا بد أن نذكر حضور فيلم من ايران في أفلامها القصيرة وآخر من فلسطين. الإيراني هو «أكثر من ساعتين» لعلي أصغري، أما الفلسطيني فعنوانه «كوندوم ليد» ومخرجاه هما محمد وأحمد أبو ناصر... وهذان لن يكونا وحدهما فلسطينيي المهرجان، إذ هناك أيضاً وبخاصة هاني أبي أسعد الذي يعود إلى «كان» في تظاهرة «نظرة ما» بعد سنوات من نجاحه في التظاهرة نفسها بطويله الأول «عرس رنا»، وبعد أن مرّ قبل سنوات في مهرجان برلين حيث حقق طويله الثاني «الجنة الآن» النجاح الأوروبي الذي نعرف...قبل أن يصل إلى المنافسة الجدية في أوسكار أفضل فيلم أجنبي. بفيلمه الروائي الطويل الثالث «عمر» المشارك في مسابقة «نظرة ما» يؤمّن هاني أبي أسعد، إذاً الحضور الوحيد للسينما العربية في مهرجان «كان» هذه المرة إلا إذا اعتبرنا فيلم الكردي المبدع هينر سليم «بلدي بلد البهار الحلو» عربيًا بشكل أو آخر طالما أنه يحسب على العراق علماً أن سليم مولود في أربيل لكنه يعمل في أوروبا منذ سنوات حيث لا يتوقف عن تحقيق أفلام تفوز بالجوائز والإقبال وتحصد نجاحات من دون أن يصنفها أحد عربية. هذه المرة يحكي لنا سليم، وهو حكواتي مميز للمناسبة، حكاية شعبية مليئة بالطرافة والمغامرات عن واحد من «أبطال حرب تحرير كردستان» تجعله مرحلة ما بعد الحرب شرطياً في منطقة نائية ما يضعه في عزلة وهامشية يجد لنفسه فيها - ويالسعادته! - رفقة تتمثل في فاتنة إيران المنفية غولشفتي فرهاني، ولنا أن نتخيل بقية الحكاية في انتظار مشاهدة الفيلم ... وفي الانتظار كذلك، سيمكننا طبعاً أن نحلم بأزمان مقبلة تعود فيها سينمات عربية غائبة إلى رحاب «كان» لنعرف ما إذا كان «الربيع العربي» الوهمي قادراً بعد على رفد السينما بالمواضيع والأفكار والصور أم أنه قضى حقاً عليها في ما قضى عليه من أحلام وأمنيات.