يقف حزب النور في مفترق طرق، بينما تترقب الأوساط السياسية المصرية إصدار قانون تقسيم الدوائر الانتخابية الخاص بمجلس النواب، المحطة الأخيرة في «خريطة الطريق»، ووفقاً لقانون تنظيم التشريعات الذي حدد مقاعد البرلمان ب 540 مقعداً، منها 420 مقعداً يجرى التنافس عليها بالنظام الفردي، فيما سيتم انتخاب 120 نائباً بنظام القائمة المطلقة. والأرجح أن حزب النور أظهر نجاحات معقولة في التعامل مع الملفات الشائكة التي تصدرت المشهد المصري في الأشهر الثلاثة الأخيرة من حكم جماعة الإخوان المسلمين، لا سيما مطالبته المستمرة بتأليف حكومة وحدة وطنية، وجهوده لتقريب فرص التلاقي والتنسيق بين قوى المعارضة والرئيس محمد مرسي بعد التفاف الجماعة على «تعهدات فيرمونت» التي التزمت بها عشية جولة الإعادة الرئاسية 2012. إلا أن فرصه في تكرار نموذج «الوصيف» باتت معدومة بعد انخراطه في «خريطة طريق المستقبل»، ما عرّضه لانتقادات شديدة داخل قواعده، فضلاً عن تأييده قرارات الحكومة الأخيرة بشأن رفع أسعار الوقود وتقليص الدعم المقرر على السلع التموينية. غير أن الصورة الذهنية لحزب النور في الوعي الجمعي العام باتت مشوشة اليوم، بسبب ازدواجية أدائه السياسي. ففيما أُعلن أن الحزب سيرشح عدداً من النساء في الانتخابات البرلمانية، ضمن اللجنة النسائية الموجودة في الحزب، وكذلك الأقباط التزاماً بقانون الانتخابات الذي يشترط تمثيل الفئات الست (العمال والفلاحون والمرأة والأقباط والمعاقون وذوو الاحتياجات الخاصة)، رفض في تصريحات أخرى تولي امرأة أو قبطي رئاسة الحزب، بدعوى عدم جواز ذلك شرعاً. وتسبب هذا الارتباك بانزلاق الحزب في مسارات التيه، وخسارة قطاع معتبر من قواعده الحزبية التي كانت عامل الحسم في فوزه بالمركز الثاني في برلمانيات عام الجماعة، وتجلى هذا التراجع في مناطق نفوذه في الإسكندرية والبحيرة ومطروح وكفر الشيخ والجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا، إذ أحجمت القوى السلفية هناك عن التصويت على دستور 2014 وكذلك الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في أيار (مايو) الماضي. المثير أن سياسات الحزب الركيكة لم تفقده زخمه شعبياً فحسب، وإنما باتت أطياف سياسية، رسمية وشبه رسمية، تشكك في اتجاهاته وتوجهاته، لا سيما في ظل إصراره على خلط الدعوي بالسياسي. ولعل هذا ما سهّل على وزارة التربية والتعليم اتخاذ القرار بتوصيفه ضمن مناهج التاريخ الذي تطرحه في سوق المدارس الثانوية بأنه حزب «غير دستوري». القلق المبكر هذا مع الأجهزة الرسمية لم يكن الأول من نوعه، فقد سبق أن حذرت وزارة الأوقاف الدعوة السلفية وذراعها السياسية حزب النور السلفي، وعلماءه، ومشايخه، من صعود المنابر وإلقاء خطبة الجمعة، في أي من المساجد، من دون الحصول على تراخيص من وزارة الأوقاف. ويأتي هذا التحذير عقب صدور قانون حظر الخطابة لغير الأزهريين، ما دفع آلافاً من مشايخ الدعوة إلى البقاء في بيوتهم وإلا تعرضوا لعقوبات مغلظة تصل إلى حد السجن. ولم تفلح مفاوضات طويلة أجراها التيار السلفي مع الدولة للتحايل والالتفاف على قانون الخطابة وميثاق الشرف الدعوي، في تجاوز الأزمة أو اختراقها، بل طاول المنع أبرز رموز الدعوة السلفية مثل محمد حسان، الداعية الأشهر، ونائبها برهامي الذي تبارى في الدفاع عن ثورة 30 حزيران (يونيو)، بل كان أول من برّأ في نهاية كانون الثاني (يناير) 2014 ساحة وزير الدفاع آنذاك عبدالفتاح السيسي من الدماء التي سالت في فض اعتصامي رابعة وميدان النهضة في 14 آب (أغسطس) 2013. واقع جديد صحيح أن «النور» بعد سجال وجدل حامي الوطيس داخلي، اضطر لأن يتعامل مع واقع جديد كان أبعد ما يكون عن عقله السياسي، لكن ذلك ألقى بظلال سلبية وتوترات لا تخطئها عين داخل أروقة الحزب وبنيته الدعوية. الأحزاب السياسية بشقيها المدني والديني بدورها لفظت «النور»، فاستبعد التيار المدني مثلاً التحالف معه، لذلك قد يجد نفسه مدفوعاً إلى تقديم تنازلات مؤلمة والاعتماد على أحزاب صغيرة ليس لها رصيد شعبي، بسبب وقوفها في معسكر جماعة الإخوان ولو من وراء ستار. ليس كل ما سبق وحده هو ما أدى إلى تراجع النور من منصب الوصيف في برلمانيات 2012 إلى رقم متأخر، بل مرجح حذفه من البرلمان بعدما فقد بريقه الشعبي، إذ عاد الاشتباك بين الحزب السياسي الذي يجتهد في تقديم تنظيرات شرعية متماسكة تلائم التحولات السياسية والفكرية، والسلفية العلمية التي يعتقد مشايخها بمخالفة حزب «النور» منهج السلف الذي يحظر العمل السياسي والحزبي. لكن يظل أن السلطة الجديدة التي دعمها حزب «النور» منذ اللحظة الأولى تغض الطرف الآن عما قدمه من جهود سياسية وتبريرات شرعية لتمرير عزل مرسي. فبعد اتهامات مباشرة من حملة السيسي عشية التصويت الرئاسي لحزب «النور» بالتدليس والمناورة على المشير، والتصويت من وراء ستار لصباحي، عادت العناوين الخلافية مجدداً بين التيار السلفي من جهة والدولة من جهة أخرى بعد اعتراض «النور» على قانون الانتخابات الذي خصص ما يقرب من 80 في المئة للنظام الفردي، وهو الأمر الذي قد يسرّع وتيرة تهميش الحزب الذي طالما وجد في ظهور المرأة «حراماً» وفي الأقباط «كفاراً»، ويضطر الآن الى توفير ثلاث مرشحات على الأقل على قوائمه ومثلهن ممن كان يعتبرهم كفاراً أو على الأقل غير مؤمنين. صحيح أن حزب «النور» حاول عبر الحضور المكثف في وسائل الإعلام والقفز على هذه الاتهامات والتأسيس لتفاهمات جديدة سواء مع قواعده أو الدولة الرسمية، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لتعويض رصيده المتآكل في الشارع، بل زاد متاعبه السياسية. من هنا، قد يبقى حضور حزب «النور» في المشهد السياسي المقبل ضعيفاً، وربما لا يجد لنفسه موطئ قدم في البرلمانيات المقبلة، وهي الأهم بين 13 برلماناً سبقتها، إذ فضلاً عن امتلاكه السلطة التشريعية، في كون الدستور المصري الجديد يلزم رئيس الدولة بالحصول على تزكية غالبية البرلمان على حكومته، فإن لم يحصل يكلّف الرئيس حزب الأكثرية تأليف الحكومة. هنا تحديداً تظل عقدة حزب النور، وهي كيف يمكن وقف سيل خسارته الشعبية التي تتزامن مع قرب الانتخابات النيابية الباب الأخير لبقاء الحزب ضمن مشاهد السلطة وأروقتها المؤسسة بفعل اتساع الرتق مع قواعده، وفي الوقت ذاته الحفاظ على شعرة معاوية مع الدولة المصرية الرسمية التي تسعى إلى بناء دولة مدنية تعلي فقط من شأن مؤسسات الدولة الدينية، الأزهر والكنيسة، وبينهما الأوقاف. عقبات في هذا السياق العام، يظل حزب النور الذي مثّل كتلة ضخمة وفاعلة بعد رحيل حسني مبارك، وحظي بثقة مجتمعية واسعة عاجزاً عن إعادة توحيد الصف السلفي وتطوير صورته الذهنية التي تعرضت للتآكل بفعل تقلباته السياسية التي أدخلت الحزب في سلسلة طويلة من الفضائح واستنزفت قدراته في معارك مع كل القوى السياسية. أيضا، قد لا يكون للحزب الدور الذي يتصوره ويطمح إليه على الخريطة السياسية المصرية في المستقبل. فالشك المتبادل هو العنوان الأبرز في علاقة التيار السلفي بالقوى المدنية، ناهيك بأن نظام الحكم في مصر الذي يعلي من القيم المدنية يجعل من التيار السلفي الذي تتسم بنيته الذهنية بصرامة الاتباع للنصوص الشرعية عبئاً عليه، ناهيك بأن حزب النور، الوعاء الأكبر للسلفيين، فقد زخمه أوساط قطاعات مجتمعية واسعة، فهو لدى التيارات التي تراهن على مدنية الدولة أقرب إلى نخب طفيلية اقتحم ذات ليل أو من وراء ستار وعبر قوته العددية البيئة التي أفرزتها ثورة 25 يناير وأحداث 30 يونيو. كما أن صورته في أوساط القوى الإسلامية لا تتعدى كونه عميلاً للدولة نجح في خداع جمهوره حين رفع شعار الشريعة. * كاتب مصري