إذا كانت اللغة العربية في خطر، فإن الأمة برمتها في خطر، لأن اللغة هي عنوان الهويّة ووعاء الثقافة والسجل للتاريخ. وتلك هي أعمدة الكيان القومي للأمم والشعوب كافة، إذا تصدعت، تصدّع هذا الكيان وأوشك أن يسقط. وفي الأسبوع الماضي استضافت دبي المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية، الذي عقد تحت عنوان «اللغة العربية في خطر... الجميع شركاء في حمايتها»، بدعوة من المجلس الدولي للغة العربية، وبالتعاون مع اليونيسكو واتحاد الجامعات العربية، ومكتب التربية العربي لدول الخليج وعدد من المنظمات والهيئات الدولية. ولقد كان عنوان المؤتمر معبّراً عن الإدراك العميق، الذي لا يزال يتنامى، بخطورة الوضع الذي وصلت إليه لغة الضاد في عصرٍ تفاقمت فيه الأزمات التي تهدد الأمن والسلم في المنطقة، إن لم يكن في العالم أجمع، وتعاظمت التحديات التي تواجه العرب والمسلمين قاطبة، بغض النظر عن الانتماءات والولاءات، في ظل حالة التخاذل التي تسود المنطقة جراء تصاعد مدّ التمزيق والتفتيت، وارتفاع موجات الصراع المذهبي والاحتقان الاجتماعي وسياسة التدمير والقتل كما هي الحال في سورية والعراق. فاللغة العربية ليست شأناً ثقافياً محضاً، ولا هي قضية تربوية تعليمية خالصة، وليست مسألة لغوية لا صلة لها بالمسائل العامة الأخرى، حتى تبحث في النطاق الضيق الخاص بها، كما تبحث القضايا الثقافية والتربوية والأدبية، ولكنها قضية وجود ترقى إلى مستوى قضايا الأمن القومي ذات الخطورة البالغة، التي تستوجب قدراً كثيراً من بالغ العناية وعظيم الاهتمام وكامل اليقظة. وفي الوقت الذي تشتدّ الضربات التي توجّه إلى كيان الأمة، وتتكاثر السهام التي تسدَّد إلى الجسم العربي، وتنكشف أوراق التآمر الداخلي والخارجي ضد العرب والمسلمين، تطرح المسألة اللغوية بكل عنفوانها وحدتها، لتدق ناقوس الخطر الذي يدعونا إلى التفكير جدياً في هذه القضية على أعلى المستويات، وليس فقط على المستوى الثقافي العام، لأن الموضوع يفوق هذا المستوى، ويستدعي التعبئة العامة بكل ما في الكلمة من معان ٍ ودلالات وأبعاد، بعد أن تراجعت لغة الضاد تراجعاً معيباً عن تيار الحياة العامة، وبلغت مستوى لا يليق في التعليم بعامة، وفي التعليم الجامعي بخاصة، بما في ذلك كليات اللغة العربية وآدابها، وحتى على مستوى البحوث والرسائل الجامعية المتخصصة في الموضوعات اللغوية والأدبية والتراثية، بحيث صار خريجو هذه الأقسام في حاجة إلى إعادة تأهيل في النحو والصرف وقواعد اللغة. وما وصلت إليه أوضاع اللغة العربية في الإدارات الحكومية، وفي القطاع الخاص من البنوك والشركات والمؤسسات التجارية والصناعية، وفي عدد من وسائل الإعلام من غزوٍ شاملٍ للغة الإنكليزية في المشرق العربي، وللغة الفرنسية في المغرب العربي، مما لا يقاس بما كانت عليه الحال في مرحلة ما قبل الاستقلال الوطني لجل هذه الدول. وهو الأمر الذي أدى إلى تنامي شعور بالدونية والخنوع أمام اللغة الأجنبية المكتسحة والانبهار بها وإسلاس القياد لها. وتلك هي نذر الخطر المحدق بالأمة الذي لا يقل شرّاً عن الخطر المادي الملموس المتمثل في هذه الأزمات المحتدمة المشتعلة في كل من سورية والعراق ولبنان واليمن والصومال، والتوترات المفتعلة في كل من مصر وليبيا وتونس والبحرين، والتدخلات الإيرانية الطائفية المحمومة في شؤون المنطقة، لأن الهدف الذي يجمع بينهما، هو تمزيق العالم العربي، حتى تظل إسرائيل صاحبة اليد الطولى تفرض هيمنتها على المنطقة وتواصل تنفيذ مخططاتها، بخاصة في مدينة القدس الشريف، لهدم المسجد الأقصى. ولربما بدا أن في الربط بين الخطر الذي يهدد اللغة العربية وبين الخطر الذي يهدد سيادة الدول العربية وأمن المنطقة، شيئاً من المبالغة. ولكن بقليل من التأمل والتعمق في فهم ما يجري في العالم العربي الإسلامي بصورة عامة، ندرك أن الأمر جلل، وأن هذا الربط حقيقة قائمة ماثلة أمام أعيننا لا سبيل إلى إنكارها، يعدّ تجاهلُها، أو الإعراض عنها، أو التقليل من شأنها، غفلة معيبة وخطأ فادحاً قد تترتب عليه تداعيات ليست في مصلحة العرب والمسلمين بأية حال. إن إضعاف اللغة أو إقصاءها وإهمالها أو صرف النظر عن النهوض بها، هو إضعافٌ لكيان الأمة ولقدراتها ولمقوماتها ولخصوصياتها الروحية والثقافية والحضارية. وإن النكوص عن القيام بما يلزم لتفادي هذا الضعف الذي تعاني منه اللغة العربية ولإنعاشها وللسعي في ردّ الاعتبار لها، لا يمكن أن يكون إلا تفريطاً في القيام بالواجب، وتقصيراً في الاضطلاع بالمسؤولية الجماعية تجاه لغتنا التي هي عنوان هويتنا ووعاء ثقافتنا وفكرنا وأدبنا وحضارتنا وتاريخنا. لكل هذه الاعتبارات، تابعت باهتمام المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية، كما تابعت من قبل، المؤتمر الأول، في إطار اهتماماتي بقضايا اللغة العربية، إنْ على مستوى المجامع اللغوية العربية، أو على مستوى الدراسات والبحوث الأكاديمية التي تعنى بلغة الضاد، يقيناً مني بأن النهوض بلغة القرآن الكريم، هو المدخل إلى النهوض بالأمة قاطبة. ولذلك فإن إيلاء أقصى الاهتمام للنهوض باللغة العربية، مسؤولية وطنية وقومية، بل أقول هو واجب ديني في المقام الأول، بقدر ما هو واجب سياسي والتزام أخلاقي. والأمر في جميع الأحوال، يتطلب الإرادة السياسية الواعية. ولقد كان مؤتمر القمة العربي في دورتيه الأخيرتين، ومؤتمر القمة الإسلامي في دورات متعاقبة، قد اتخذ قرارات في هذا الشأن، بل سبق لبعض الغيورين والمهتمين، وكنت أحدهم، أن دعوا إلى عقد قمة عربية تخصص للثقافة وللغة العربية. ولكن يبدو أن هذه الدعوة التي أطلقتها نخبة من المفكرين، لم تلق استجابة إلى اليوم. وهو الأمر الذي يدعونا إلى الجهر بأن الأمة في خطر، لأن اللغة العربية التي تجمعهم وتعبّر عن هويتهم هي في خطر. وإذا ضاعت اللغة فعلى الأمة السلام. * أكاديمي سعودي