تؤكّد مختلف المعطيات أن عملية استئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية باتت وشيكة، لكن الأمر لا يقتصر على ذلك هذه المرّة، إذ ثمة أيضاً مداخلات وتطوّرات جديدة ونوعية تحيط بهذه العملية. يأتي ضمن ذلك مثلاً، توقيع الرئيس الفلسطيني مؤخّراً على اتفاقية تمنح العاهل الأردني (وليس الأردن)، حقّ الوصاية على الأماكن المقدسة في القدسالشرقية، بمعنى التشارك في تقرير مصير القدس، وهذا أمر لافت ومفاجئ وغير مسبوق في السياسة الفلسطينية، التي طالما نافحت من أجل وحدانية تمثيل قضية فلسطين وشعبها، ما يثير التكهّنات بشأن مغزى ذلك وانعكاسه على طبيعة الحلول المقترحة، لا سيما في ما يتعلق بإمكان تجاوز قضية القدس في المفاوضات المقبلة، أو ربما بما يتعلّق بالانفتاح مجدّداً على الخيار الأردني-الفلسطيني الكونفدرالي. كما يأتي ضمن ذلك القبول العربي بفكرة «التبادلية»، والتحمّس المجاني والمتسرّع لتعديل «مبادرة السلام العربية»، التي مضى عليها عقد من الزمان، والتي تجاهلتها إسرائيل، على ضعفها وقصورها، وهو الأمر الذي حملته «لجنة المتابعة العربية لمبادرة السلام» إلى واشنطن في اللقاء الذي تم أواخر الشهر الماضي مع جون كيري وزير الخارجية الأميركية، والذي كان في عداده رياض المالكي وزير خارجية فلسطين. وهذا يعني، في ما يعنيه، منح مقترح «تبادل الأراضي» مع الإسرائيليين غطاءً عربياً، والتساوق مع وجهة النظر الأميركية بشأن التركيز في هذه المرحلة، فقط، على ملف الحدود (طبعاً قضية اللاجئين غير مطروحة البتّة)، ما يفيد بطيّ مسألة المستوطنات، وهو المعنى الآخر للانصياع للإملاءات الإسرائيلية، بدلاً من توجيه الضغوط على إسرائيل لإجبارها على الرضوخ للقرارات الدولية ذات الصلة، على الأقل. كذلك، فإن هذه التوجّهات ليست بمعزل عن مساعي الإدارة الأميركية لفرض نوع من «السلام الاقتصادي» القائم على وعود بتحسين شروط حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، واحتمال منح سلطتهم صلاحيات أكبر في المنطقة (ج)، على أن تتولّى الولاياتالمتحدة تلبية المطالب الإسرائيلية، المتعلقة بالأمن، وأيضاً، بتطبيع علاقاتها مع الدول العربية، مع ضمان الاعتراف بها كدولة يهودية، كأن إسرائيل تحتاج إلى مكافآت مجانية على احتلالاتها وممارساتها العنصرية وضربها الحائط بقرارات المجتمع الدولي المتعلقة بالانسحاب من الأراضي المحتلة، وإنفاذ حقوق الفلسطينيين! الآن، بديهي أن الإدارة الأميركية ترى في المناخات السائدة في المنطقة العربية، لا سيما في مصر وسورية ولبنان والعراق، بمثابة الفرصة السانحة لحلحلة الصراع العربي-الإسرائيلي، بأي شكل، لا سيما أنها تبحث عن طريقة للتخفّف من أعبائها في هذه المنطقة، إن للتركيز على أحوالها الداخلية، أو لاهتمامها بمناطق أخرى أكثر حيوية لمصالحها ولأمنها القومي. وطبعاً، فإن الأحوال في العالم العربي تبدو مهيأة لذلك، مع الانشغال بالثورات والاضطرابات، والفجوة بين الحكام والمحكومين، واستشراس النظام السوري في تدمير شعبه، وميل غالبية النظم العربية لاعتبار إيران بمثابة الخطر الداهم على استقرار المنطقة، فحتى مصر، التي باتت تحت حكم حزب «الحرية والعدالة» (المنبثق عن «الإخوان المسلمين») لا تبدي ميلاً للانشغال بقضية فلسطين (ولا بقضية السوريين) بقدر انشغالها بترسيخ سلطتها في مصر، ولو كان على حساب مبادئها. السؤال الآن: ما الذي بوسع القيادة الفلسطينية أن تفعله في هذه الظروف الصعبة والمعقّدة؟ وماذا بالنسبة إلى خياراتها السياسية الممكنة؟ والجواب على ذلك أن هذه القيادة، وهي ذاتها قيادة المنظمة والسلطة وحركة «فتح»، لم تقم بأي شيء من أجل تعزيز مكانتها بين شعبها، وفي العالم، ولا من أجل تحسين فرصها في مواجهة إسرائيل ومقاومة املاءاتها، لا بالطرق السلمية والشعبية، ولا بطرق المقاومة بالحجارة أو بالسلاح. فعلى عكس كل ذلك، ساهم المسار الذي اختطّته هذه القيادة في ضياع الفلسطينيين، وتنمية مشاعر الحيرة والإحباط وفقدان الأمل عندهم، كما في زيادة خلافاتهم وانقساماتهم، ويخشى أن ذلك لم يعد يقتصر على فصائلهم السياسية، وإنما بات يشمل تباين الأولويات بين التجمعات الفلسطينية، وتنامي الشعور بالاختلاف والتفارق في ما بينها. وهكذا، لم تكلّف تلك القيادة نفسها طوال السنوات الماضية، باعتماد خيارات بديلة أو حتى موازية، وفضّلت الارتهان للخيار التفاوضي، على الرغم من كل أحاديثها عن انسداد هذا الخيار، مع استفحال الأنشطة الاستيطانية وتغيير إسرائيل لمعالم الضفة الغربية، بالجسور والأنفاق والطرق الالتفافية والمستوطنات والجدار الفاصل، ومع تأكيدها أن إسرائيل حولت المفاوضات إلى لعبة، أو متاهة، لقضم أكبر قدر من الأراضي، وتصعيب قيام دولة مستقلة وحيوية وقابلة للحياة. أيضاً، لم تفعل هذه القيادة شيئاً لبثّ روح المقاومة عند الفلسطينيين في مواجهة سياسات إسرائيل الاحتلالية والاستيطانية والقمعية والعنصرية، ولا بأي وسيلة أو طريقة، بل إنها عبر مسارات التنسيق الأمني والاعتمادية الاقتصادية، خلقت واقعاً من الاحتلال المربح والمريح ليس لإسرائيل كدولة فقط، وإنما لمجمل الإسرائيليين أيضاً، الذين ما عادوا يدفعون أي ثمن للاحتلال. ووفق آري شبيط: «لم يعد الإسرائيليون يتحدثون عن سلام مع الفلسطينيين ولا عن انسحاب من أراضٍ فلسطينية أيضاً، ولا يتحدثون عن الضفة ولا عن غزة ولا عن الاحتلال، ولا عن العامل السكاني الفلسطيني والشتات الفلسطيني والشعب الفلسطيني، بل لا يكادون يتحدثون حتى عن الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، فقد كان الفلسطينيون، وما عادوا موجودين.. الغائبون الذين أصبحوا حاضرين عادوا فأصبحوا غائبين.. فقد تلاشت الانتفاضة الأولى، وهُزمت الثانية، ورُدعت دولة «حماس»، وصُد التسونامي السياسي، فلم ينجح الفلسطينيون في أن يفرضوا علينا وعي وجودهم بهجماتهم على أسوارنا... فقد ضقنا ذرعاً بالخوف منهم، وبرحمتهم، وبتذكر أنهم هناك دائماً» («هآرتس»، 2/5) هذا هو الواقع الذي خلقته السلطة، التي استمرأت واقعها كسلطة تحت الاحتلال، والتي نجم عنها تخليق طبقة سياسية هي بمثابة جيش من المتفرّغين في الأجهزة الأمنية والسياسية (الطفيلية)، والتي باتت ترتبط مصالحها وامتيازاتها وادعاءاتها ونمط عيشها،باستمرار الموارد المالية المتأتّية من الدول المانحة، ما يجعلها تشتغل على تكريس الواقع الراهن وصدّ أي محاولة للبحث عن خيارات سياسية أخرى. الأخطر من ذلك أن هذا الأمر نجم عنه قيام ثقافة فلسطنيية هجينة، ومشوّهة، لا علاقة لها بقيم الحرية والكرامة والعدالة، وهي ثقافة لا تفصل بين التحرير والحرية فقط، وإنما تبتذل مفهوم التحرير وتحوّله إلى مجرد قضية عقارية، وقضية سلطة، وأجهزة أمن وسفارات وعلم ونشيد وزيارات. والأخطر من هذا وذاك أيضاً، أن هذا الواقع نجم عنه إعلاء شأن القضايا المحلّية لكل تجمّع فلسطيني على حساب القضية الوطنية العامة، وعلى حساب قيمتي الحقيقة والعدالة. ويخشى أن كل ذلك بات يضيع الهوية الفلسطينية وإجماعات الفلسطينيين ورؤيتهم لذاتهم كشعب، وهو الأمر الذي ظلّوا يفتخرون به على مسار التفكّك، ففي هذا السياق بالذات، بات يمكن اليوم ملاحظة أن ثمة فلسطينيين (في سورية) يقتلون ويشرّدون ويعانون العذابات، في حين أن معظم كياناتهم تنكر أو لا تبالي بذلك، والمؤلم أن هذين الإنكار واللامبالاة باتا يشملان مجتمعات الفلسطينيين الأخرى التي لم تبد أي حراك مناسب للتعاطف مع معاناة فلسطينيي سورية، الذين لم يقصّروا مع أحد يوماً. طبعاً لم يعد ثمة أهمية عملية، بعد كل ما جرى، لسؤال ما العمل، على ضوء الواقع السائد، وتخلّي القيادة الفلسطينية عن أوراق القوّة لديها، وضمنها قضية اللاجئين، ومنظمة التحرير، والمقاومة، والقرارات الدولية، وبعدها الشعب العربي، وبوضعها شعبها أمام احد خيارين، إما استمرار الواقع الراهن، أو التكيّف في مفاوضات التسوية مع الإملاءات الأميركية-الإسرائيلية، مع محاولة تحسين شروطها. لكن، مع كل ذلك، ثمة جواب على هذا السؤال، فما هي قيمة أي «إنجاز»، أو أي كيان، إذا كان يتأسّس على تلاشي الحقوق الوطنية للفلسطينيين، وتقويض وحدتهم وإجماعاتهم كشعب؟ ولنلاحظ أيضاً، أنه بينما كانت إسرائيل تعلن استمرارها في بناء المستوطنات والجدار الفاصل وتعتدي على المصلّين في المسجد الأقصى، وتعتقل، وتهين على الحواجز، كان ثمة فلسطينيون من هذا الفصيل مشغولون بالتهجّم على السلطة لدعمها الشاب محمد عساف الذي يشارك في برنامج «عرب أيدول»، وبالمقابل كان ثمة فلسطينيون من فصيل آخر مشغولون بالتهجّم على السلطة التي استقبلت الشيخ القرضاوي ومنحته جواز سفرها، ما يبيّن مدى التدهور في حال السياسة والثقافة والاجتماع بين الفلسطينيين. هكذا، فقد كنا نعرف أسباب تغييب الفلسطينيين، لكن الآن بات لزاماً علينا أن نعرف أسباب غيابهم. * كاتب فلسطيني