كانت أمي الغالية تطلب أن نختار كلماتنا عند الحديث، وأن نتجنب الكلمات غير اللائقة حتى لو كانت دارجة، وحكمتها في ذلك أن «الملافظ سعد يا بنتي»... تذكرت عبارتها حين أبدت صديقتي الكاتبة العربية انزعاجها من إطلاق كلمات مثل «أجنبي» أو «مقيم» على المقيمين العرب في دول الخليج، تقول: «تُشعرك بالغربة حقاً!»، وفي الوقت نفسه نقرأ كلمات مثل «طرد، إبعاد، عمالة سائبة، حجاج متخلفين، عاطل... إلخ»، في معرض تصفحنا للأخبار اليومية، وحتى في أنظمتنا «نظام الإقامة مثلاً»، ما يجعلني أتساءل هل يعي من يستخدم هذه الكلمات الجارحة أنها أقرب إلى اللكمات منها للكلمات لمن نستخدمها في حقهم؟ قوة الكلمة في البناء أو الهدم لا يمكن الاستهانة بها وإلا لما سُنت قوانين في بلاد العالم المتقدم تُجرم استخدام الكلمات العنصرية مثلاً وتعاقب من يستخدمها بالغرامة وحتى السجن، واليوم تخرج مطالبات في دولة مثل بريطانيا لسن قانون يُجرم الأذى اللفظي في المدارس بعد أن تم تسجيل حالات انتحار لأطفال تحت العاشرة بسبب التنمر «البلطجة» من أطفال آخرين. في الأعوام القليلة الماضية بدأت الحكومات ووسائل الإعلام العالمية تستبدل بالكلمات الجارحة أو القوية في أنظمتها وأخبارها كلمات أكثر لطفاً وتعبر عن المعنى نفسه، ومن الأمثلة على ذلك: قتلى الحرب بالخطأ، تم تغييرها إلى نيران صديقة، عاطل عن العمل، إلى باحث عن العمل، طرد من العمل، إلى تسريح من العمل، معوقون، إلى ذوي احتياجات خاصة وغيرها. من المفارقات أن تعرف أن لغتنا العربية هي من سبق العالم في فكرة «الملافظ سعد»، فلدينا ما يُسمى «المتضاد»، وهو اصطلاحاً كما جاء في لسان العرب: «دلالة اللفظ الواحد على معنيين متضادين»، وقال ابن فارس النحوي، رحمه الله: «من سنن العرب في الأسماء أن يسموا المتضادين باسم واحد»، فيقال بصير للأعمى، ومفازة للصحراء المهلكة، وسليم للملدوغ، وريان للعطشان، وكل ذلك تفاؤلاً وتجنباً لذكر الشر، حتى أنك تجد أثراً لذلك في العامية، ففي مصر إذا سألت عن أحدهم وكان مريضاً قالوا: «فلان بعافية!» من باب التفاؤل، وفي بلاد المغرب العربي يسمون النار «عافية»، لأنه في زمن الأجداد وقبل موقد الغاز والكهرباء، كانوا إذا أرسلوا يطلبون جمرة من الجيران ليوقدوا نارهم، كان الطفل يسأل الجار: «عندكم عافية؟»، بدلاً من: «عندكم نار؟»، تأدباً واجتناباً لذكر المكروه! قرأت كثيراً عن ضرورة لفت النظر للكلمات الجارحة وحتى الشتائم التي أصبحت معتادة جداً وغير مستهجنة في أحاديثنا اليومية، لأنها ما نهى عنه القرآن الكريم والأدب النبوي، لكن لم أقرأ يوماً مطالبات عن ضرورة تغيير المسميات الجارحة في أنظمتنا ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية وهي الأولى بالتغيير، لأن ما نقرأ كل يوم يتبرمج في العقل ويصبح ما نتحدث به. اللغة العربية من أجمل وأكمل اللغات التي عرفها التاريخ، فاقت بقية اللغات بوفرة مفرداتها ودقة معانيها، هي التي سبقت العالم وسمت الأعمى بصيراً، فلن تعجز أن تجعل الجارح جميلاً، أو أن تجمع بدلاً من أن تفرق... لنجعلها كما قال الشاعر: لغةٌ إذا وقَعَتْ على أسماعِنا كانت لنا برداً على الأكْبادِ سَتَظَلُّ رابِطةً تُؤَلِّفُ بيننا فهي الرجاءُ لناطقٍ بالضَّادِ قفشة: كُتب على لوحة: «لا تقل للمعوق معوقاً، بل قل ذو احتياجات خاصة»، وجاء في أسفل اللوحة «بمناسبة اليوم العالمي للمعوقين». [email protected] @manal_alsharif