مضى أكثر من عامين على إصدار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمراً ملكياً بقصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء، إلا أن الأوساط الشرعية تباينت في توقعها لنجاح هذا الأمر، فكانت هناك آراء تؤيد وأخرى تستبعد حصول ذلك. ثمة شرعيون قبلوا والتزموا القرار، ولكنهم سرعان ما استجابوا لضغط الاستفتاء الجماهيري، فبدا واضحاً الانسحاب من الالتزام. القرار يسعى إلى الحد من فوضى الفتوى، من خلال تخصيص علماء ترى فيهم هيئة كبار العلماء القدرة على الاضطلاع بالفتوى. استثنى القرار الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول، على أن يمنع منعاً باتاً التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء، ومفردات أهل العلم المرجوحة، وأقوالهم المهجورة، وكل من يتجاوز هذا الترتيب فسيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع، كائناً من كان. «الحياة» تستطلع آراء المتخصصين حول واقع الفتوى بعد مضي وقت طويل على القرار. فأوضح عضو هيئة التدريس في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى حاتم العوني أن الفتوى العامة قصرت على هيئة كبار العلماء حفظاً للدين من تطاول الجهلة وأدعياء العلم والفقه. وهو ما أيده عضو مجلس الشورى عيسى الغيث بقوله: «قصر الفتوى في الشأن العام على العلماء دفع لمفاسد فوضى الفتاوى وجلب المصلحة العامة للبلاد والعباد، وأما في الشأن الخاص فمتاح لكل المجتهدين من الفقهاء، بشرط أن يكون غير علني، وهذا هو المفترض أصالةً وعليه العمل عند السلف لأن الإفتاء العلني غير مناسب، لأنه ينتهك خصوصية السائل وكذلك يضلل الآخرين بتقليد الفتوى في حال قد تختلف عن حالتهم، ولكن للأسف لم يتم التقيد بالأمر إلا لفترة وجيزة ثم انتهك بعد ذلك وبشكل صارخ في القنوات الفضائية والمساجد والإنترنت. وفي سياق متصل، ناقش خالد المزيني المهتم بالفقه والفتوى وعضو هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن الفارق بين قصر الفتوى وتنظيم الفتوى وقال: «قصر الفتوى على بعض الناس خطأ شرعاً وسياسةً، فكل مؤهل للفتوى هو مؤتمن على بذل العلم وقول كلمة الحق بشروطها المعروفة عند العلماء، ولا يمكن أن يحول أحد بين الناس وبين من يثقون بعلمه ودينه». وأضاف: «أما تنظيم الفتوى بما يلم شعث القول، ويقي النظر العلمي من مثارات الغلط، ويمنع الجهول من القول بغير علم، بوضع ضوابط لمن يتصدر للإفتاء في وسائل الإعلام العامة فهذا من السياسة الشرعية المطلوبة، لأنها تحقق مقصود الشريعة من منصب الإفتاء، وهو بيان العلم وعدم كتمانه والتوافق على الخير وعدم التفرق، لكن يجب أن تكون الضوابط ملائمة لهذا القصد، لا أن تكون غايتها محاصرة القول المخالف أو إقصاء التنوع الفقهي الذي يثري حركة الاجتهاد في الأمة»، معتبراً أن «قصر الفتوى والتضييق على الكلمة المعتبرة وإن لم تكن صائبة في نظرنا من كل وجه فهذا تحجير لما وسعه الله تعالى، وتقييد لحرية الاجتهاد والاحتساب العلمي». رأى بعض المؤيدين للقرار أن هذا الأمر الملكي ينطوي على معالجة لإشكالية فوضى الفتاوى التي شاعت في الأوساط الفقهية والإعلامية، في هذا الإطار قال خالد المزيني إن الإعلام لاعب رئيس في سوق الفتوى اليوم، واعتبر الترويج الإعلامي جسراً لمعرفة الناس بأكثر الفتاوى المثيرة للجدل، إضافة إلى خلل في بعض من يتصدر للفتوى من حيث التأهيل الفقهي المعرفي ومن حيث الوعي بالواقع والكياسة في التعامل معه، فالمسؤولية كما يقول مشتركة بين إعلام لا يراعي الشروط الأخلاقية وبين بعض المفتين الذين لا يراعون قواعد العلم وأصوله، وعلى الجميع أن يتقي الله في هذه الأمة ويحفظ للفتوى مكانتها ويقدم المصالح العليا على المكاسب الشخصية. العوني أعاد أسباب فوضى الفتاوى إلى التضخيم الإعلامي والاضطراب الفقهي كذلك وأضاف إليهما: غياب أدب الاختلاف، بالتشنيع والإنكار على الاختلاف المعتبر بين أهل العلم، ومحاولة إظهاره في صورة القول الشاذ أو الباطل. ولكن الهذلول يعتقد بأن ظاهرة انتشار الفتاوى إيجابية وضرورية لإثراء العلم والمعرفة بتنوّع الرؤية الشرعية للمستجدات للوصول للحق، ويرى أنه مطلوب من عموم الناس التعلّم ورفع الجهل، وحينئذ سيميزون بين من هو جدير بالإفتاء ومن يتطفّل عليها، على حد قوله.