وسط التغيرات في العلاقات الدولية وسياسات لاعبيها الرئيسين، وبخاصة إعادة الانتشار الأميركي الاستراتيجي باتجاه منطقة آسيا المحيط الهادئ والاستعادة المرحلية لمفردات الحرب الباردة في خطاب السياسة الخارجية الروسية يبدو الاتحاد الأوروبي بدوله ال27 ضحية استحقاقات تاريخية تأتي في أسوأ أوقاتها بسبب تشابك الأزمات الاقتصادية والمصرفية والنقدية والمؤسساتية، وبروز صدوع محورية لا تهدد تنافسيته ودوره الراهن وحسب، بل مستقبله كمجموعة في عالم متعدد الأقطاب. المثال الأخير على نوع ووجهة الأزمات هو «التوتر الودي» الفرنسي-الألماني، كما كان سمّاه الرئيس فرانسوا هولاند قبل شهر، والذي تطوَّر إلى مجابهة نتيجة وثيقة لحزبه عن أوروبا وصفت أنجيلا ميركل ب «مستشارة التقشف»، ما أدى إلى ردود غاضبة لدى أحزاب اليمين في البلدين على رغم تخفيف نسختها النهائية لاحقاً، ومساعي تطويق آثارها على العلاقة الفرنسية-الألمانية الموصوفة بأنها المحرك التاريخي للمشروع الأوروبي. الإشكال الرئيس للوثيقة أنها لم تكن غيمة في سماء صافية بقدر ما كانت آخر الأدلة على ان «الاتحاد الأوروبي» لا يعاني من الأزمة الاقتصادية وحدها، بل إن هذه الأخيرة تحولت ايضاً الى كاشفٍ لاختلالات التأسيس والتوسيع وأدواته وهياكله السياسية. ولم يكن صدفة أن تصدر قُبَيْل ذلك مؤشرات اخرى مثّلتها استطلاعات الرأي الأوروبية الأحدث التي أظهرت تصاعد التيار التشككي حيال المشروع الأوروبي. ويصف مارك ليونار وجوزيه توريبلانكا من «المجلس الاوروبي للعلاقات الخارجية» نمو التيار المذكور بأنه أخذ يشبه طريقة انتشار الفيروس في قوته. فوفق «أورو بارومتر»، وهو استطلاعٌ نصف سنوي تقوم به المفوضية الاوروبية، تراجعت الثقة بالاتحاد الاوروبي منذ بدء الأزمة الاقتصادية المالية إلى مستويات بالغة التدنّي. فارتفعت نسبة المتشككين بين 2004 و2012 في بلدان أوروبية عدة بمعدلات ضخمة وغير مسبوقة. اذ قبل سنوات وعندما تراجع معدل الثقة ب 13 نقطة في بريطانيا، اعتُبِر الامر استثناءً غير قابل للتعميم يعكس جزيرية البلد وروابطه الوثيقة الموازية مع الولاياتالمتحدة والعالم الأنغلوساكسوني. الاكثر اشكالية ان ضياع الثقة بالمشروع الاوروبي يشمل اليوم الجميع: الدائنين والمدينين، شمال القارة القديمة وجنوبها والدول الاعضاء في منطقة الاورو كما الدول المرشحة للانضمام اليها او تلك التي تنوي تركها. المفارقة ان كلاً من المتشككين لديه اسبابه بما يخلق دائرة حلزونية مُقفلَة على اي حوار اوروبي عابر للشعوب والمؤسسات الوطنية. فمواطنو الدول الدائنة لا يريدون الدفع عن دول الموازنات العاجزة والمصارف المفلسة ويريدون إلزامها بتطبيق المعاهدات الاوروبية ومعاييرها وتدابيرها التقشفية والرقابية والضريبية بالكامل، بما تتضمنه من تحديد للإنفاق العام وإضعافٍ منهجيٍ للخدمات العامة والتقديمات الاجتماعية بكل ما تعنيه على مستوى آليات إعادة توزيع الثروة على الصعيدين الوطني والاوروبي ومصائر «دولة الرعاية». والإثنان يعتبران الاتحاد الأوروبي وهيئاته حاجزاً دون سيادتهما على مواردهما وسياساتهما. وتعتبر غالبية دول جنوب القارة وشرقها أن شمالها يتصرَّف في الاتحاد على غرار سلوك المركز الرأسمالي مع المحيط، وأن ترويكا البنك المركزي والمفوضية الأوروبيين وصندوق النقد الدولي تفرض على الجنوب الأوروبي ما كان وما زال الأخير يفرضه على دول الجنوبالمدينة. والحال ان النقد الشائع حتى الآن كان يركز من جهة على ابتعاد مؤسسات الاتحاد الاوروبي وبيروقراطييها عن هموم المواطنين نظراً لما يحملونه من «تشوّهٍ مهني» و «مسافة طبقية»، ومن جهة اخرى على التخارُج المتمثل بأن الهيئة المُقرِّرَة (المفوضية الاوروبية) ليست مُنتخَبة وأن قرارها يُتخذ وفق آلياتٍ تجعل اصحابه غير خاضعين لضبط المؤسسات التمثيلية نظراً لجزئية ومحدودية صلاحيات وعملانية البرلمان الأوروبي. فالمجلس الأوروبي ومجلس الوزراء يمثلان الدول، أما المفوضية وهي المحرك الفعلي للاتحاد فيُقر البرلمان اسم رئيسها الذي تنتخبه قمة المجلس المكون من قمة رؤساء الدول ومجالس وزرائها، وهو الذي يقوم بدوره بتعيين مفوضيها ال27. المستوى الآخر من المشكلة هو التردد الدستوري للاتحاد بين الكونفيدرالية التي تجعله تجمعاً للحكومات والفيدرالية التي يُفترَض أن تؤدي إلى «حكومة أوروبية». فهو يملك حق القرار في بعض الاختصاصات كمُشرِّعٍ حصري في قضايا الاتحاد الجمركي والمنافسة في السوق الداخلية والسياسة النقدية لمجموعة الأورو والسياسة التجارية المشتركة. فيما يُشرِّع بالاشتراك مع الدول الأعضاء في القضايا المتعلقة بالسياسة الاجتماعية والتماسك الاقتصادي والزراعة والبيئة وحماية المستهلكين والنقل والطاقة والحريات والأمن. وهذا بينما مؤسساته العسكرية لا تزال في بداية تجسيدها لهياكل مشتركة و «مستقلة» نسبياً عن الناتو، في حين تعيش اوروبا على ضفاف مجاميع من الأزمات الإقليمية-الدولية، بدءاً بالدرع الصاروخي مروراً بمخاطر تطور أشكال جديدة من الإرهاب في افريقيا القريبة وتعطُل عملية تسوية الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني الذي تعتقد دوائر عدة أن أوروبا وحدها قادرة على اعادة اطلاقها، نظراً «لعدم قدرة الولاياتالمتحدة على الاعتراف بحقوق متساوية بين الاسرائيليين والفلسطينيين في التفاوض وفق قرارات الاممالمتحدة»، كما قال بيان لشخصيات اوروبية معروفة (24/04)، وصولاً إلى ازمة النووي الايراني ومخاطر الاحتدام الإقليمي بسبب محاولات «الممانعة» إنقاذ النظام السوري. والحال أن الأزمة المتمادية عقَّدت الاستيعاب التدريجي للتوتر التأسيسي بين الأوروبي و «الوطني» وصعّبت عملية تكوين المُواطَنَة الأوروبية. فقبلها كان الفرز بين اليمين واليسار الحكوميين وتلويناتهما يُهيكل الأنظمة السياسية الاوروبية. لكن استقرار الأزمة وشمولها أكسبا الشعبويات مؤيدين جدداً وولَّدا بفعل توسع وسائل التواصل وطلب المشاركة وإضعاف البنى الوسيطة بين السياسة والمجتمع حركات لا تقليدية تجمع مقاربات متعددة المستويات وحمَّالة أوجه متناقضة وتلعب مرحلياً دور المُشظّي والمُصحِّح معاً. مصالح الدول المتشابكة والكبيرة في «الاتحاد» قد تحمي بنيته الاساسية، لكنها غير متطابقة كفاية للاحتفاظ بكل انجازاته في انتظار «المشروع الأوروبي»، اذا استمر التقشف والركود في وقتٍ واحد. * كاتب لبناني