«لا بد من المواجهة بين قوى الظلام والنور»، هذا ما يقوله الفنان المصري عبد الهادي الوشاحي وهو يتأمل نموذج النصب التذكاري الذي صنعه للشهيد والقابع في أحد أركان الغرفة داخل محترفه في القاهرة. ليس هذا هو النصب الوحيد داخل المحترف، فأعمال الوشاحي هي كلّها مشاريع مؤجلة لنصب تذكارية، أجمل ما فيها أنها تحاور الفراغ وتباغته بحلول غير متوقعة. عبد الهادي الوشاحي هو صاحب تمثال عميد الأدب العربي طه حسين الذي رشحته أخيراً «جبهة الدفاع عن الإبداع» لتنفيذه في أحد الميادين رداً على تحطيم تمثاله النصفي في مسقط رأسه في مدينة المنيا. وهذا هو أبلغ تعبير وعرفان بقيمة كاتب بحجم طه حسين. إنّ تمثال الوشاحي الذي انتهى من صنعه قبل سنوات عدّة ظل حبيساً داخل محترفه في القاهرة بانتظار الوقت المناسب الذي يخرج فيه إلى النور. تبرّع النحّات بمجهوده في عمل التمثال، بينما تتكفل «جبهة الدفاع عن الإبداع» بجمع التبرعات من أجل صبّه وإقامته في ما يشبه الاكتتاب، كما يقول الفنان محمد عبلة صاحب الفكرة وأحد أعضاء الجبهة. وهو أمر يعيد إلى الأذهان قصة إنشاء تمثال «نهضة مصر» المواجه لجامعة القاهرة، للراحل محمود مختار، الذي تمّ جمع كلفته من طريق اكتتاب عام شارك فيه المصريون في بدايات القرن الماضي. الوشاحي نفسه غفل النظام السابق عن تكريمه ولم يحصل على جائزة الدولة التقديرية إلا بعد أشهر على اندلاع الثورة. وعلى رغم الأسى الذي يبدو على ملامحه كلّما تذكّر حال الثقافة المصرية التي تواجه تهديدات «قوى الظلام»، إلاّ أنّه سرعان ما يستعيد ابتسامته حين يتعلق الأمر بهذا التمثال تحديداً، ولا يخفي سعادته بإحيائه من جديد. وكان من المقرّر أن يحتلّ تمثال صاحب «الأيام» أحد الميادين القاهرية قبل سنوات، غير أنّ وزارة الثقافة المصرية بخلت عليه حينها وماطت في تنفيذه على رغم تكليفه بهذا الأمر، فتوقف العمل به. يبلغ ارتفاع تمثال طه حسين، الذي بدأ الوشاحي بوضع اللمسات الأخيرة عليه لكي يُصبح جاهزاً للصب بخامة البرونز، نحو ثلاثة أمتار. هذا من دون القاعدة. وهو عبارة عن كتلة واحدة، يبدو فيها عميد الأدب العربي وهو ينظر إلى الأمام مرفوع الرأس، كأنه يستشرف المجهول. يجلس كأنما يقف. يميل بجذعه إلى الأمام، كأنّه يهمّ بالحديث. أمّا أروع ما في هذا التمثال فهو عينان غائرتان تستقبلان النور من أعلى وتوزعانه على الناظرين. هذا النور الذي حرم منه، ووزعه على أبناء وطنه، ثقافة وأدباً، ودعوة إلى جعل التعليم حاجة كالماء والهواء، وهو أمر كفيل بالذود عنه في مواجهة طيور الجهل والظلام. تمثال النحات عبد الهادي الوشاحى المولود في المنصورة (شمال مصر) عام 1936 يُجسّد عملاً مميزاً يليق حقاً بكاتب مثل طه حسين، ويُكرّس أيضاً قيمة مصر الثقافية والفكرية والفنية مع التحديات التي تعيشها اليوم.