ارتبط تاريخ فن الحداثة بشكل وثيق بمفهوم «الفضاء» الذي يحيط بالعمل الفني، سواء أكان مجازيّاً أم ماديّاً. وبالأحرى، من المستطاع ربط تاريخ الفن الحديث بالتغيّرات التي تحدث في مفهوم هذا الفضاء، ولعلنا وصلنا الآن إلى مرحلة نرى فيها «الفضاء» قبل الفن. ومن يعمل في فن «التجهيز» Installation مثلاً، يلمس هذا الأمر بصورة مباشرة، بمجرد دخول قاعة العرض. وتتبادر إلى أذهان البعض صورة فضاء مثالي ربما يكون نوعاً من الصورة «المقدّسة» لفن القرن العشرين، إذ إنها تفسر نفسها عبر عملية تاريخية غالباً ما ترتبط بالفن الذي تحويه. وتحت رعاية قطاع الفنون التشكيلية التابع لوزارة الثقافة المصرية، والجامعة الألمانية، والمجلس الثقافي البريطاني، والسفارة الأميركية في مصر، ومؤسسة «بروهيلفسيا» في القاهرة، جرت أخيراً في «مركز الجزيرة للفنون» فعاليات «مهرجان مصر الدولي الأول للفن الرقمي». وعلى مدار أسبوعين، قدّم المهرجان للجمهور والفنانين فرصة لرؤية معارض فنون رقمية، وعروض سينمائية مسائية، وزيارة استوديو مفتوح، وحضور مؤتمر علمي، والمشاركة في ورش عمل متنوّعة. وكذلك أتاح للأطفال فرصة لتعلّم فنون رقميّة معاصرة. وقدّم المعرض أيضاً أعمالاً لرواد الفنون الرقمية في مصر، إضافة إلى عروض عن خبرات مماثلة في دول أخرى، ما عمّق معرفة الفنانين الشباب بطرق تغيير ممارساتهم الفنية وتحويلها إلى فنون رقمية، إذ شكّل المهرجان تجربة ثريّة في التواصل مع تجارب من حقول متمايزة، ما يفيد مستقبلاً في صنع برامج رقميّة متخصّصة بالمناحي الفنيّة المتنوّعة. ضمّ المهرجان معرضاً جماعياً لفنانين مصريين وأجانب في مركز الجزيرة للفنون والمجلس الثقافي البريطاني. واحتوى أيضاً ورش عمل شملت 7 نشاطات مختلفة عن وسائط رقميّة تساعد الفنانين الشباب على التمرّس بآليات الفن الرقمي، وبينها فن الصوت وتصميم الألعاب والأداء الرقمي وغيرها. وخصّص المهرجان قسماً للأطفال أتاح لهم التجوال مع مرشدين، كي يتعلّموا أساسيات الفن الرقمي وطُرُق التعامل معها. ولفت بعض المشاركين إلى أن فنّاني مصر استخدموا الوسائل الفنيّة نفسها في أعمال الرسم والنحت والتصوير وسواها (مع تنويع في الأفكار)، منذ عصر الفنانين محمود مختار ومحمود سعيد (وهما من أوائل خريجي كلية الفنون الجملية في القاهرة التي أنشأها الأمير يوسف كمال في العام 1908)، وحتى بداية انتفاضتهم في أواخر الثمانينات من القرن الفائت. وكذلك ذكّر هؤلاء المشاركون بأن معرض «المكعب الأبيض» كان المكان الوحيد لإثبات جدارة الأعمال الفنيّة، باعتباره معرضاً تؤمّه الصفوة للاستمتاع بالفنون أو شراء بعض الأعمال الفنيّة. وبعد انتشار الحاسوب والإنترنت في تسعينات القرن الماضي، بدأ الفنانون استخدام مزيد من الوسائل الرقمية في أعمالهم، والتكيف مع حركة الانتفاضة السريعة في انتقال الفنون إلى الوسائل الرقميّة. وبذا، تغيّر المشهد الفني المعاصر بشدّة خلال السنوات العشر الماضية. وتغيّرت أيضاً فكرتا «الفضاء» و «العمل الفني». والأرجح أن هذه المتغيّرات هي من الأسباب الرئيسية في عقد هذا المهرجان.