يمكن اعتبار سوق «العرَصة» الشهيرة، الواقعة في منطقة التراث بمدينة الشارقة، أرشيفاً مادياً يختزن فيضاً من القصص والحكايات عن أهل المنطقة، ويروي صفحات وأسراراً من الماضي البعيد والقريب عن بشر تآلفوا مع رمال الصحراء بحثاً عن الماء والكلأ، وخاضوا زرقة مياه الخليج أملاً في العثور على اللؤلؤ الثمين، وعلى الضفاف الفاصلة كان لا بد من فسحة للاستراحة من الأسفار ورحلات التيه، ولعل سوق العرصة التراثية مثلت «استراحة المحارب» تلك، سواء لأولئك الذين قدموا من ملوحة مياه الخليج أو الذين لوحت وجوههم شمس الصحراء. وإذا كان اسم السوق يوحي بمعنى سيء في عامية أهل بلاد الشام، فإن مفردة العرصة تعني في اللغة الفصحى «كل بقعة بين الدور فارغة»، ومن البديهي أن تستقطب تلك البقع الفارغة التجار والصيادين والبائعين. من هنا نشأت، قبل نحو مئتي سنة، سوق عرفت بسوق العرصة، علماً أنها تسمى كذلك السوق القديمة أو سوق البحر. وقد أخذت، منذ البداية، طابع المركز التجاري، فكانت تعج بالناس ذلك أن نشاط السوق لم يقتصر على عمليات البيع والشراء، بل كانت مكاناً يجتمع فيه الناس من كل مكان ويفد إليه السائحون والرحالة والمسافرون العابرون. وهناك كانت تعقد الصفقات بين تجار اللؤلؤ، وتتم الاتفاقات بين النواخذة والبحارة. بل لعبت السوق دوراً تنويرياً سياسياً. وساعدت في انتعاش هذه البقعة وتطورها لتشغل مكاناً استراتيجياً في حركة البيع والشراء، موقع مدينة الشارقة ذاته من حيث الملاحة والبضائع المتنوعة الآتية من الهند واليمن وعُمان وإيران وغيرها من الدول القريبة. مرَّت السوق، التي تضم حالياً نحو 80 محلاً، بمراحل عدة، وكل مرحلة اتسمت ببعد اجتماعي واقتصادي عكس طبيعة الحياة، وظروف المعيشة القائمة. لكن اللافت أن السوق تحتفظ بحيويتها على رغم ارتفاع الأبراج الحديثة الشاهقة على مسافة أمتار قليلة منها، وكذلك المولات التجارية الضخمة، وهيمنة ملامح الحداثة. ففي مقدور الزائر، وهو يطأ أرض السوق، أن يتنسم عبق الماضي، وأن يرسم في ذهنه سيناريوات متخيلة عن المسارات الوعرة التي سلكتها المنطقة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من تطور وتحديث. وعندما ينعم الزائر النظر إلى جمال جدران الطوب والنقوش الفنية التي تزين أبواب السوق الخشبية العتيقة والفوانيس المعلقة عند المنعطفات، ويرتشف الشاي «السليماني» في المقهى القديم وسط السوق، سوف يتنبه إلى أن مذاقاً آخر يتشكل بين الأروقة التاريخية وخلف الزوايا الضيقة، مذاق مفعم بصدى الراحلين الذين تركوا بصمات عميقة في الذاكرة يصعب اقتلاعها من الوجدان الجمعي لأهل المنطقة. ما زالت الحركة في هذه السوق قائمة على قدم وساق، إذ يقوم الباعة ببيع منتجاتهم من الحلي الفضية والأحجار الكريمة ومصنوعات الحرف اليدوية وصناديق التحف والخناجر العمانية ولآلئ الخليج وبعض الانتيكات والعملات والطوابع والصور الفوتوغرافية القديمة، وأنواع متعددة من التمور والتوابل والملابس التقليدية والبخور، إضافة إلى السلال المصنوعة من سعف النخيل وبعض الأدوية العشبية والسجاد، فضلاً عن وجود محلات متخصصة في المأكولات الإماراتية الشعبية والحلويات التقليدية وطقوس القهوة العربية التي ترمز إلى التشبث بهوية يصعب التخلي عنها، ولا غرابة في أن هذه السوق تجذب المواطن الإماراتي ومواطني دول الخليج عموماً قبل السائح الغربي، ذلك أن السوق هي عنوان على الأصالة للفئة الأولى، فيما تمثل متحفاً شرقياً يصلح لالتقاط الصور التذكارية واقتناء الهدايا بالنسبة إلى السائح الأجنبي.