تؤكد الحكومة المصرية أنها تعمل لإصلاح بيئة الاستثمار من خلال تعديل نحو 36 ألف قانون وقرار يتعلق بالاستثمار. ولا تزال مصر تحتل مراتب متأخرة في قائمة البلدان المضيفة للاستثمار، فهي صنِّفت، مثلاً، في المرتبة ال 109 عالمياً وال 10 عربياً في بيئة أداء الأعمال وفق التقرير الأخير للمؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات. وليس هذا مستغرباً فمصر خضعت منذ ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 لفلسفة الاقتصاد الشمولي بدءاً بالإصلاح الزراعي وتمصير المصالح الأجنبية ثم تأميم الأصول الخاصة وتطبيق الاشتراكية العربية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وعلى رغم أن الرئيس الراحل أنور السادات عمد بعد توليه الحكم في تشرين الأول (أكتوبر) 1970 إلى تحرير البلاد من النظام الاقتصادي الشمولي وبدأ عملية الانفتاح الاقتصادي وأقر قانون الاستثمار رقم 43 لعام 1974، عطلت البيروقراطية التطبيق الفاعل لذلك القانون، كما أن منظمة الفساد السياسي الإداري في عهدي السادات وخلفه الرئيس حسني مبارك لم تتمكن من تحويل مصر إلى بيئة استثمارية جاذبة. وعلى رغم تحويل كثير من المؤسسات والأصول، من ملكية الدولة إلى القطاع الخاص، خصوصاً في قطاعي السياحة والصناعات التحويلية، ظلت قواعد العمل الاقتصادي مرهونة للعديد من الإجراءات والأنظمة والقوانين المعطلة للعمل الاقتصادي في ظل آليات السوق الحرة. ولا تزال هناك قيود على التحويلات من مصر فلا يمكن للشركات الأجنبية أن تحول أكثر من 100 ألف دولار إلى خارج مصر من دون تحديد أسباب تجارية واضحة ومن دون موافقة المصرف المركزي. ويتطلب الحصول على الموافقات وقتاً لا يقل عن أسابيع. لهذه الأسباب لا يزال الإقبال على الاستثمار في مصر محدوداً، وهو ليس بالأمر الجديد فالتردد هو الغالب بين المستثمرين منذ ما قبل ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011. وزادت الأمور تعقيداً بعد الثورة وتراجعت الثقة بأداء الاقتصاد المصري وبالضمانات السياسية والقانونية التي تحكم العمل الاستثماري. لم يصدر المصرف المركزي المصري أي ترخيص لمصارف جديدة منذ 1979. وبدلاً من التراخيص الجديدة عمدت السلطات إلى عرض مساهمات في مصارف قائمة أمام المستثمرين الأجانب. لكن المساهمات الأجنبية التي أنجِزت، ظلت معرضة للطعن القانوني من قبل جهات مصرية في المحاكم بدوافع سياسية أو بمزاعم أنها تمت بشروط غير مؤاتية للمصالح المصرية أو بيعت بأسعار دون قيمها الحقيقية. وغني عن البيان أن هذه التحديات ستعطل الاستثمار الأجنبي في مصر لأمد طويل ما لم تتمكن السلطات السياسية الجديدة في مصر من تغيير المناخ السياسي والثقافي المتحكم بالعمل الاقتصادي وبما يعزز قيم الانفتاح. هل يمكن أن تتحسن ثقة المستثمرين بالاقتصاد المصري خلال الشهور والسنوات المقبلة؟ يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ معدل النمو الاقتصادي في مصر اثنين في المئة خلال 2013. ولا شك في أن هذا المعدل يظل متواضعاً على خلفية الواقع الاقتصادي الراهن، وهو يعني أن معدل النمو في دخل الفرد سيكون صفراً، نظراً إلى الارتفاع السريع في عدد السكان. لذا فالاقتصاد المصري سيكون في حال من الركود في هذا العام، وربما في الأعوام التالية. ولا يتوقع المراقبون الاقتصاديون، المصريون والأجانب، أن تتدفق أموال مهمة إلى مصر في شكل استثمارات هذا العام، كما أن التمويلات الميسرة وغيرها قد لا تتوافر بموجب متطلبات التنمية والإنفاق الجاري. لذلك، فإن صندوق النقد الدولي لا يزال متردداً، وبعد جولات عديدة من المفاوضات، ولم يقرر تسليم مصر قرضاً متفقاً عليه ب 4.8 بليون دولار. ويفترض أن يوافق الصندوق على هذا القرض إذا اعتمدت الحكومة المصرية سياسات تقشفية حادة تؤدي إلى إلغاء كثير من بنود الإنفاق الجاري، مثل دعم السلع الغذائية والوقود، وتبني ضرائب على مداخيل الأفراد والمؤسسات. لكن هل يمكن سياسياً قبول هذه الشروط التي قد تزيد المعاناة المعيشية في مصر في ظل أوضاع سياسية غير مستقرة وحال من الغليان وعدم التوافق بين حكومة الرئيس محمد مرسي والمعارضة؟ إن تطوير أوضاع الاستثمار وتحسين الأوضاع الاقتصادية في بلد مثل مصر يتطلب استقراراً سياسياً وتوافقاً مجتمعياً، وهما أمران لا يبدو أنهما سيتحققان في الأمد القصير. وهناك معضلات هيكلية في البلاد مثل ارتفاع حدة البطالة والتي تقدَّر رسمياً ب 13.5 في المئة، في حين يزعم العديد من الاقتصاديين المصريين بأنها تتجاوز هذا المستوى. وهناك تراجع في حصيلة الإيرادات السيادية بعد انخفاض تدفق السياح إلى البلاد خلال الأعوام الثلاثة الماضية وتدهور مستوى الصادرات السلعية، نظراً إلى تعطل أعمال العديد من المصانع والمعامل. وانخفضت احتياطات النقد الأجنبي بنسبة 62 في المئة منذ الإطاحة بنظام مبارك فتراجعت من 36 بليون دولار إلى13.6 بليون دولار. وأدت هذه الحقائق إلى تراجع سعر صرف الجنيه المصري إلى مستوى قياسي، فأصبح سعر صرف الدولار يعادل ما يقارب سبعة جنيهات الآن. قد لا يرى المستثمرون الأجانب أن هذه الأوضاع جاذبة للاستثمار ما يعني ضرورة تجاوز هذه المعضلات وتبني فلسفة اقتصادية عصرية تهدف إلى مزيد من الانفتاح الاقتصادي. ولذلك فإن مبادرة الحكومة المصرية لإصلاح الأنظمة والقوانين والقرارات ذات الصلة تبقى مهمة لتطوير بيئة الأعمال، إلا أن الجاذبية تتطلب إصلاح الأوضاع السياسية ومعالجة المشاكل الديموغرافية. وربما لا تتمكن الحكومة المصرية من جذب المستثمرين في الأمد القصير لكن العمل من أجل الإصلاح يؤكد بدايات صحيحة. كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت