لم تكن الصدامات التي حصلت بين المسلمين والأقباط في الفترة الأخيرة حادثة استثنائية، فقد سبقتها تعديات على المسيحيين قبل الانتفاضة المصرية، في ظل عهد حسني مبارك، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة. تضرب جذور الخلافات عميقاً، وتتصل بموقع الأقباط في الحياة السياسية في مصر، وبمسألة التشريعات المنصوص عليها في الدستور وما يتعلق منها بالحقوق السياسية والمدنية والمساواة بين جميع المواطنين. يعاني الأقباط منذ عقود من تمييز يجعلهم أقرب إلى مواطنين من الدرجة الثانية، فيحرمون من مناصب أساسية في الدولة وأجهزة الأمن والجيش. خلال العهد السابق، وقعت صدامات متكررة بين الأقباط والمسلمين، منها ما كان ناجماً عن احتكاكات محلية سرعان ما تتحول عنفاً، ومنها ما كان مفتعلاً من أجهزة النظام لتحويل الأنظار عن مشكلات يعاني منها الحكم المصري ولا يجد حلولاً للاحتقان الناجم عنها، فيلجأ إلى تصريف هذا الاحتقان بإثارة الغرائز الطوائفية، مما كان يضع البلاد أحياناً على شفير حرب أهلية. خلال انتفاضة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني)، انخرط الأقباط بقوة في التظاهرات الداعية إلى إسقاط مبارك، ورأوا بصيص أمل في الشعارات التي ارتفعت، والداعية إلى دولة مدنية في مصر على قاعدة المساواة بين المواطنين من دون التمييز في الدين أو الجنس أو العرق. لاحت للأقباط فرصة المشاركة الحقيقة لهم في الحياة السياسية جنباً إلى جنب مع سائر مكونات المجتمع المصري، لكن سرعان ما بدا أن هذا «الحلم» ما يزال بعيداً جداً من التحقق. ما إن استقرت الأمور في مصر وحصلت الانتخابات التي شهدت صعود التيارات الدينية، حتى انقلب الأمل المسيحي إلى كابوس مزعج. ارتفعت أصوات التيارات الدينية والسلفية الداعية إلى إقامة حكم إسلامي في مصر، واستعيدت لغة التحريض ضد الأقباط، بما فيها لغة أهل الذمة، وطاول التحريض موقعهم في المجتمع المصري، وصولاً إلى التشكيك بمواطنيتهم، بل ذهب بعض التيارات السلفية الى التساؤل عن معنى وجودهم في مصر، الذي يجب أن يكون في رأي هؤلاء حكراً على طائفة معينة. كان من الطبيعي أن يتصاعد هذا الاحتقان والتناقض، وان يعبر عن نفسه لدى أول حادث بانفجار عنفي ودموي، وهو ما تكرر اكثر من مرة. اتخذت الأحداث الأخيرة، التي شهدت قتالاً دموياً سقط فيه ضحايا معظمهم من الأقباط، منحى خطيراً في مسلك الإخوان المسلمين تجاه هذا المكوّن الرئيسي من المجتمع المصري، وخلال تظاهرة تشييع أحد الضحايا المسيحيين، ارتفعت شعارات معادية لحكمهم، منها «فليسقط حكم المرشد»، فأجاب الإخوان على هذه الشعارات بتصعيد خطير ضد المتظاهرين طاول المتظاهرين وتسبب في قتلى وجرحى كانوا من المسيحيين والمسلمين. لم يكن هناك أي التباس في صورة الاعتداء الإخواني على المتظاهرين، وجواباً على الانتقادات التي وجهت لبلطجية الإخوان، بررت قيادات الإخوان موقف جماعتهم بأن المتظاهرين كانوا يهتفون ضد الإسلام، ما أثار شبيبة الإخوان، الذي تصدوا للمتظاهرين تحت حجة الدفاع عن الإسلام. يحمل جواب قيادة الإخوان المسلمين خطورة تطاول راهن الحياة السياسية والفكرية في مصر ومستقبلها، ووجه الخطورة هو في الدمج بين قيادات الإخوان والدين الإسلامي، بحيث يتحول أي انتقاد لهذه الجماعة إلى تهجم على الدين نفسه. لا تخفي هذه الوجهة المحتكرة للدين والمختزلة له في قيادات سياسية أو مدنية، نزعة ترمي إلى تحوير ما يمثله الدين من قيم أخلاقية وروحية وإنسانية عامة، إلى مادة في الصراع السياسي الذي لا ينجم عنه سوى حروب أهلية ومذهبية تدمر المجتمع المصري ونسيجه الاجتماعي. يمكن كل مراقب للواقع المصري أن يرى في هذا التحريض والتجييش الطائفي سياسة متعمدة من الإخوان المسلمين جواباً على التخبط الذي يعيشه حكمهم. تعاني مصر حالياً من أوضاع اقتصادية واجتماعية متدهورة ومدمرة لم يسبق لها أن مرت بها في حياتها منذ عقود، ويرتفع منسوب الفقر بشكل هائل، وتسجل معدلات البطالة أحجاماً قياسية في الازدياد، وتعاني المؤسسات الاقتصادية من شلل متصاعد، وتعجز الدولة عن تأمين الحد الأدنى من الخدمات المطلوبة للمواطن، ويلوح شبح الإفلاس المالي، في ظل تقلص موارد الدولة... ويترافق ذلك كله مع محاولات حثيثة لتقييد حرية الإعلام والتعبير بشكل أسوأ مما عرفته مصر في عهود سابقة، وضمن خطة تسعى فيها جماعة الإخوان إلى الهيمنة على وسائل الإعلام هذه. يجري ذلك كله وسط فوضى أمنية وصدامات هنا وهناك، وهي حالة عامة لا تعطي مصداقية لحكم الإخوان، بل توفر للمعارضة المصرية ومعها القوى المدنية والسياسية، المادةَ الخصبة لنقد يومي لهذا الحكم.على غرار كل الأنظمة الديكتاتورية أو الساعية إلى مثل هذا النظام، لم يجد قادة الإخوان وسيلة تغطي فشلهم الذريع في حل المشكلات المستفحلة في مصر، سوى تحوير الصراع السياسي والاجتماعي إلى صراع طائفي ومذهبي، تحت حجة الدفاع عن الإسلام. يزخر التاريخ العربي والإسلامي بنماذج لا حد لها من توظيف الدين في هذه الصراعات، واستخدام النصوص المقدسة بما يخدم مقولات الأطراف المتصارعة، وهكذا عمد الإخوان الى نبش نار كامنة تحت رماد الاحتقان الطائفي الذي غذته العهود المصرية السابقة، والنفخ في أتونه إلى أقصى الحدود. لن يتوقف الإخوان عن اللعب بنار الغرائز الطوائفية لتغطية فشلهم في الحكم، ما يطرح تحديات ضخمة على القوى المعارضة لسياستهم والداعين الى حكم مدني، من أجل فضح هذه السياسة وبناء القوى والمنظمات التي يمكنها أن تعيد الصراع السياسي والاجتماعي في مصر إلى مساره الصحيح. * كاتب لبناني