ترك الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وراءه تركة ثقيلة في مطلعها الاحتقان الطائفي الذي ما إن يخمد حتى يتجدد، وكان ظهوره الأخير قاسياً إذ ترك وراءه خمسة وعشرين قتيلاً، وأكثر من مئتي جريح، وندوباً نفسية لا تحصى. وعلى رغم ما جرى يعول كثيرون على ثورة 25 يناير في أن تضع حداً لهذه الآفة الاجتماعية، لكن الآمال يجب أن تنطلق من تشخيص دقيق لأسباب الاحتقان، حتى تمكن إزالته تدريجاً، وهي أسباب لا تزيد على عشرة يمكن ذكرها على النحو الآتي: 1 - إدارت السلطة السياسية هذا الملف بطريقة خاطئة، منذ أيام الرئيس الراحل أنور السادات، الذي قرَّب إليه الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، وساهم في قيام بعضها، بغية محاصرة اليسار الذي نشط في معارضة سياساته الداخلية المرتبطة بالانفتاح الاقتصادي والخارجية الساعية إلى التقارب مع إسرائيل. هذا التوجه جعل السادات يأخذ موقفاً أبعد من المسيحيين، وموقفاً عنيفاً من البابا شنودة، ومنذ تلك اللحظة توالت الإدارة الفاشلة لهذا الملف، واستمرت مع حكم مبارك، فتأخر حصول الأقباط على حقوقهم كمواطنين مصريين، وانسحبوا من الحياة السياسية العامة، وتقوقعوا داخل الكنيسة، التي بدورها انفصلت شعورياً عن الدولة، وكأنها كيان مستقل، في ظل التعامل مع موضوع الأقباط من زاوية أمنية بحتة، إذ غابت السياسة عنه، وكان هذا خطأ كبيراً، لا يزال قائماً في إدارة المجلس العسكري للفترة الانتقالية عقب الثورة المصرية. 2 - الخطاب الديني المنفلت غير المسؤول الذي يفتقد إلى الاعتدال والوسطية لدى بعض الدعاة ومنتجي الفتوى الإسلاميين وكذلك بعض القساوسة والوعاظ المسيحيين. وهذه الآفة أحد أسباب اندلاع الفتنة الطائفية، لأن بعض تلك الخطابات وصل إلى مرحلة التكفير والتحريض، والنيل من عقيدة الآخر وتشويهها، في ظل إصرار عجيب من البعض على الانتصار للذات على حساب الموضوع، وللفرد على حساب المجموع. يتم هذا مع تغييب قصدي واضح لتفعيل وتطبيق النص الديني الأصلي في الواقع المعيش. فالقرآن والإنجيل يحثان على التعارف والمحبة والتسامح، ويضعان الأسس العامة للعيش المشترك، ومع هذا يتم إهمالهما بشكل مخجل. 3 - النظام التعليمي أيضاً لم يكن بعيداً من أسباب الفتنة الطائفية، لأنه لا يتضمن ما يعزز الوحدة الوطنية، فإذا كنا نتعلم لنفهم وندرك ونعمل، يجب أن نتعلم أيضاً لنتعايش. والتعليم المصري ظل عقوداً يفتقد إلى ما يحض على التعايش في شكل واضح وراسخ، وما يبني في الأذهان والأفهام اقتناعاً بأن الوحدة الوطنية عمود فقري للأمن القومي لمصر، وأحد أركان حياتها المديدة. 4 - أدى تفشي الأمية الثقافية في المجتمع، إلى جعل قطاعات عريضة من المسلمين والمسيحيين مستلبة حيال الخطاب الديني السطحي الاستهلاكي والاستعمالي، والذي يلبي حاجة يومية دائمة إلى الهروب من ارتكاب العيوب واقتراف الذنوب. وفضلاً عن استلابهم لا يمتلك هؤلاء القدرة على نقد الخطاب الديني، لأنهم تعودوا الحفظ لا الفهم، والرواية لا الدراية. وهذا الوضع جعل عامة الناس من الطرفين يفتقدون إلى الاستقلالية في النظر المتبادل، ويسلمون سريعاً بكل ما يحرضهم على التعصب. 5 - وجود قطاع من النخبة مصاب بحب الظهور، سواء من المسلمين أو المسيحيين، حيث يبحث هؤلاء عن البطولات الفردية والزعامات الزائفة على حساب المصلحة الوطنية، فبعض منهم يعتقد أن التحريض على المسيحيين يكسبه مكانة لدى التيار الإسلامي، كما أن بعض المسيحيين يعتقد أن التجريح في المسلمين سيكسبه مكانة لدى بني ديانته، أما عامة المصريين والقطاع العاقل الناكر لذاته ومصالحه الضيقة من النخبة، فطيلة الوقت مختطف من هذين الطرفين الانتهازيين، اللذين لا يتحملان أدنى مسؤولية تجاه الوطن. 6 - لا شك في أن تصاعد دور الدين في الصراعات الدولية خلال السنوات الأخيرة ألقى بظلاله على الاحتقان الطائفي في مصر، فقد انهار الاتحاد السوفياتي، وظهر اليمين الديني والمحافظ فى الولاياتالمتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية، ووازت ذلك عولمة صارخة للحركة الإسلامية المتطرفة، بلغت ذروتها بتأسيس ما تسمى «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين» التي عرفت أمنياً وإعلامياً باسم «تنظيم القاعدة». وكل هذا التجاذب والحضور الديني في السياسة الدولية الذي واكبته ثورة اتصالات، عزز أصحاب الاتجاهات المتطرفة في مصر، سواء لدى المسيحيين أو المسلمين. 7 - ضعف التيار المدني فكرياً وسياسياً واقتصاره على نخب بسيطة لم تتمكن طيلة العقود السابقة من إقامة تنظيمات تحمي أفكارها، وتجعلها قادرة على النفاذ إلى القاعدة العريضة من الجماهير. وهذا الوضع ترك الشارع المصري فريسة لمنتجي الخطاب الديني المتعصب. وعلى رغم أن مثقفي التيار المدني تم تمكينهم عقوداً من أجهزة الثقافة والإعلام، فإنهم لم يخلفوا وراءهم قاعدة اجتماعية عريضة، لتعالي خطابهم، وغربة بعض مفرداته ومصطلحاته، وانحرافه عن المصالح الحياتية المباشرة للناس، وعدم تمكنه في الغالب الأعم من امتلاك إمكانية تغيير الرؤية الدينية من داخلها، وهو الأكثر إقناعاً للناس. 8 - نزوع غالبية المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية إلى ممارسة السياسة، وانحرافها عن دورها الطبيعي الذي يجب أن يتركز في اتخاذ ما يلزم حيال تحقيق الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي. 9 - قيام الإعلام غير المسؤول وغير المهني بتوظيف القضية الطائفية في جذب المزيد من القراء من دون وازع من ضمير يراعي المصلحة الوطنية، فبعض الإعلاميين ينفخ في الشرر ليصبح جحيماً مستعراً، ومع تصاعد دور وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام، أصبح له دور بارز في تعزيز الاحتقان الطائفي. 10 - فقدان المؤسسة الدينية التاريخية المصرية صدقيتها، نتيجة ارتباطها بالسلطة، الأمر الذي أدى إلى ظهور مؤسسات دينية خارج الأطر الرسمية، تمتلك خطاباً أكثر جاذبية، وتبدو في أعين الناس وأسماعهم أكثر صدقية، وان كان هذا مجرد أوهام. * صحافي مصري