في «المناظرات» التلفزيونية حول موضوعات السياسة والفكر، ثمّة، غالباً، وقوف بين حدّين إقصائيين لا ثالث لهما، الأبيض أو الأسود، وعلى المشاهد أن يختار اللّون الذي يتوجب أن ينحاز الى صاحبه فيوافقه الرأي بالكامل، ويرفض أطروحات «خصمه» المحاور بالكامل أيضاً. في حلقة سابقة من برنامج «الجزيرة» الشهير «الاتجاه المعاكس»، وكان موضوعها يتناول مواقف الولاياتالمتحدة من مسألة الديموقراطية في العالم، اتسم الحوار، كالعادة، بالحدّية بين من رأى أن الولاياتالمتحدة كانت ولا تزال راعياً للديموقراطية في العالم عموماً وفي البلدان العربية خصوصاً، وبين رأي نقيض ذهب إلى أنها على العكس تماماً كانت باستمرار الطّرف الدولي المتآمر على الديموقراطيات الناشئة في بلدان العالم الثالث. هذا الانقسام الحاد لا يدع للمشاهد من مساحة للتفكير الحر بعيداً من هذه القسمة الإقصائية التي تجافي الموضوعية عند المتحاورين على رغم تناقضهما، ما جعل الاقتراب من الحقيقة الموضوعية أمراً بعيد المنال في زخم ذلك الجدل العاصف. البرنامج ومعدّه ومقدمه والمتحاوران لم يقتربوا مثلاً من فكرة أن ليس للولايات المتحدة مواقف «مبدئية» من انتشار الديموقراطية وتعميمها في العالم، فالمسألة كلها شديدة الارتباط بالمصالح الأميركية ذاتها. هكذا تقف الولاياتالمتحدة مع الديموقراطية في أوكرانيا حين تأتي برئيس معاد لروسيا الاتحادية، فيما تقف ضدها في البلدان العربية بسبب إدراكها أن الانتخابات الحرّة هنا تأتي بحكام أكثر عداء لسياستها كما لإسرائيل. الأمر هنا لا يتوقف على المتحاورين وحسب، ولكنه يسحب نفسه على الاستفتاءات التي يجريها البرنامج، والتي يدلي عبرها المشاهدون بآرائهم على أساس من ذلك التقسيم القسري، والذي لا يدع مجالاً لأي اجتهاد مختلف ولو بدرجات قليلة. امام هذا الواقع، يعيد هذا اللون من الحوارات كل مرة إنتاج الحالة الثقافية الإقصائية التي تعاني منها الأوساط الثقافية والفكرية العربية، ويزيد حدّة التعصب في أوساط المشاهدين الذين يجدون أنفسهم وقد حشروا في واحدة من الزاويتين الضيقتين. من هنا سيظل السؤال يتردد عالياً: متى تخرج برامجنا الحوارية من هذه الثنائيات وتستشرف أفق الخيارات المتعدّدة، والبدائل الكثيرة؟