ينادي بعض المثقفين بإتاحة الحرية من دون قيود لإبداء آرائهم بناء على إمكاناتهم الثقافية والمشاركة في بناء الإنسان على النحو الذي يرون جدواه وفائدته لمستقبل البلاد، وينكرون على الدعاة الآثار الفكرية والثقافية التي يعانيها المجتمع نتيجة سيطرة ثقافتهم فترة طويلة، وانفرادهم بتشكيل العقلية الاجتماعية خلال العقود الماضية. لا يكاد يتوقف المثقفون عن الشكوى الدائمة من إهمال المجتمع لهم وعدم اكتراثه بما يقدمونه، لاسيما في ظل الحضور الشعبي المتكاثف في منصات الإعلام الجديد ليؤسس مرحلة جديدة من تغييب المثقف النخبوي، وترسيخ دور الدعاة في قيادة العامة، وتشكيل الرأي العام ليزيد من شكاية المثقفين ومن تراجع تأثيرهم. وعلى رغم حال الاستقطاب الحادة بين المثقف والداعية لاسيما في ساحة الشبكات الاجتماعية التي تشهد تنافساً محموماً تغذيه أعداد الأتباع والمناصرين، تبرز نماذج تجسد صوراً من التقارب بين الموقفين وتقدم أسماء تنال حظاً وافراً من رضى الطرفين ولكنها لا تسلم من الهجوم والانتقاص ولا يبتعدون كثيراً من دائرة الاستقطاب وحرب التيارات الساخنة. في ظل مجتمع محافظ ومتدين بطبيعته يسعى للحصول على مقاربة نظرية لحوادث الأمور تتفق مع الأصل الإسلامي، يبدو أن ذلك يدفع الداعية إلى التمدد في كل الأدوار، وهذا ما تكشفه الأسئلة الجماهيرية التي تنهمر على الدعاة وتكاد تستفتيهم في جوانب مختلفة ومتعددة ربما تتجاوز قدرات الداعية على الاستيعاب والتعاطي معها في شكل علمي وموضوعي. كما ويساعد على هذا فراغ المجتمع ممن يسد حاجاته الثقافية المختلفة، مع انخفاض قدرات بعض المثقفين ممن لا تصل بهم قيمتهم العلمية ونتاجهم المعرفي إلى درجة الإقناع والتأثير على المجتمع، وبالتالي يضطر المجتمع إلى استبدالهم بمجاميع الدعاة الذين لا يعدمون من يسرع إلى المشاركة في كل شاردة وواردة، والإدلاء برأي شخصي ناتج من القراءة المبتسرة للحراك والموقف الراهن مما يزيد المسألة تأزماً وضبابية، فضلاً عن إغراء الأحداث المتسارعة الذي يحرك لدى الدعاة الرغبة في ركوب الموجة والمشاركة في هذا الحراك السياسي المحموم من دون استعداد علمي كاف. وفي سياق متصل، فهناك خلط واضح بين مفهوم شمولية الدين، وقدرة الإسلام على تقديم صورة متكاملة للمجتمع وسد حاجات الأمة في جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية كافة، وبين قدرات الدعاة المحدودة في تقديم هذه الصورة وتخريج الرؤية الشرعية الدقيقة لكل متطلب، مما يدفع الدعاة أحياناً بحماسة فكرة شمولية الدين إلى تقديم خطاب مجتزأ ومرتبك في معظم أطروحاته، يخلو من الطرح العميق ويعتمد على النظرة القاصرة والتخريجات الشرعية المبتسرة من دون إلمام بمتطلبات الطرح الشمولي، ومتغيرات المكان الزمان، والمقاصد البعيدة للدين مع رعاية مصالح الناس ومداراة ظروفهم الملحة. ويؤكد عدد من المثقفين أن من المصلحة أن يستعيد المثقف دوره الحقيقي لتجسيد معنى المثقف المضيء والخلاّق و«يؤسس لصياغة مرحلة ثقافية تخرج إلى دوائر الثقافة الأكثر اتساعاً وشمولاً وفي تكريس مفهوم الثقافة وبخاصة في ظل التحولات السياسية الكبيرة والضخمة التي تمر بها الأمة العربية، وذلك من أجل ثقافة وطنية راسخة وعميقة»، وأن يقف إلى جانب الداعية صاحب الخطاب الديني الأكثر حضوراً وتأثيراً في المجتمع، وأن يتحوّلا إلى مشروع خطاب مشترك يكون أكثر عمقاً واتصالاً بالهم الوطني والسياسي، وطرح الأفكار والرؤى التي هي أكثر جذرية وانحيازاً إلى الإنسان وأكثر ذهاباً إلى المستقبل.