الأمن والهدوء السياسي الناتج عن بنية سياسية وتنظيمية قوية وواضحة مطلب الفقراء والأغنياء والعلماء والشعراء، وفقدها يسحق الفقراء ويُضِيع أموال الأغنياء، ويهاجر من جرائها العلماء، ويُعَبّر بسخرية عنها الشعراء. وطننا العربي الكبير تعرضت بنيته السياسية في بعض المناطق ولا تزال لهشاشة واهتزاز أدت إلى خراب ودمار وتقهقر وتخلف، عبَّر عنها المؤرخون والساسة والشعراء والكتّاب كلٌ حسب طريقته وثقافته. قال الأديب الشاعر جبران خليل جبران (إنما الشعر كثير من الفرح والألم والدهشة مع قليل من القاموس) إحساس الشعراء نبضٌ يترجمه الحرف ويتشكل هذا النبض، الإحساس بتأثير المشاعر التي تحيط بالشاعر وتسكن جوارحه، وكان للشعراء حديث في السياسة ووصفها وخوض غمارها، ولا تزال قصائدهم رغم قدم بعضها تُصِّور فنونها ودهاليزها، أشكالها وألوانها، طقوسها وألاعيبها، فهذا شاعر المهجر إيليا أبو ماضي يتحدث عن السياسة ويقول: واهجر أحاديث السياسة والألى يتعلّقون بحبل كلّ سياسي إني نبذت ثمارها مذ ذقتها ووجدت طعم الغدر في أضراسي وغسلت منها راحتي فغسلتها من سائر الأوضار والأدناس وتركتها لاثنين: غرّ ساذج ومشعوذ كذبذب دّساس يرضى لوطنه يصير مواطنا وتصير أمتّه إلى أجناس ويبيعها بدراهم معدودة ولو أنها جاءت من الخنّاس ما للمنافق من ضمير رادع أيّ الضمير لحيّة الأجراس؟ أكثر من خمسين عاماً على رحيل الشاعر أبو ماضي، لو عاش الحالة اللبنانية الحالية، ماذا تراه سيكتب، وبأي مفردات سيُعبّر، وكيف سيكون وصفه لوطن عاجز بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى عن حل مشاكله، عاجز عن تشكيل حكومة، عاجز عن وضع خطة تنقذ اقتصاده المتدهور، عاجز عن قطع أدبار مغذيات «طائفية التجارة والتصدير»، عاجز عن مواجهة عقبات تسير أمامه على الأرض ويصد عنها راضياً أو مُرغماً، ماذا ترى شاعر المهجر سيقول ومن سينادي؟! وكيف سيصف جواسيس المصالح الذاتية المنتشرين في كل ضاحية وكل حي من أحياء لبنان؟ أما الشاعر الكبير معروف الرصافي الذي تأثر بدهاليز السياسة وآثارها السوداء على بلاد الرافدين، وجلبت الثورات والعاهات والتخلف على أرض الأنهار والنخيل والذهب الأسود وثروة العلم وعقول العلماء والموروث الثقافي والتاريخي الكبير، تركوا كل هذا الخير وتَشَدّق الطامعون بالظلال السياسي، بالأهواء والمجد المزعوم، فَحلّ القتال والخراب والقلق مكان البناء والنماء والاطمئنان، ووصف الحال في تلك الحقبة شاعرنا العربي المكلوم بوطنه بقوله: قضت المطامع أن نطيل جدالا وأبَيْنَ إلا باطلا ومِحالا في كل يوم للمطامع ثورة باسم السياسة تستجيش قتالا ماض من سلسوا البلاد لو أنهم كانوا على طلب الوفاق عيالا أمِنَ السياسة أن يقتل بعضنا بعضا ليدرك غيرنا الآمالا لا در در اولي السياسة انهم قتلوا الرجال ويتموا الاطفالا غرسوا المطامع واغتدروا يسقونها بدم هريق على الثرى سيالا نثروا الدماء على البطاح شقائقا وتوهموها الروضة المحلالا أليست هذه الأبيات تصور حال العراق وما يحدث فيه هذه الأيام، ألم يَقُم أولي السياسة على غرس المطامع والخلافات المذهبية وتأجيجها وسقياها بدماء الأبرياء، ثم الذهاب لإلقاء التهم على المؤامرات الخارجية التي تحاك ضد العراق وأهله، ويتجاهلون حقيقة أن الضعف مرتع خصب للأطماع، والتفرقة عنوان الاستغلال الأول، والندم الكبير عندما تفرز الأحداث العملاء والجواسيس والكذابين والمنافقين والمتاجرين بالقيم والأخلاق وبالوطن ومقدراته ومستقبله. شاهدت مواطناً عراقياً يصرخ يوم السبت الماضي ويتساءل لماذا يقتلون أبناء العراق؟ ولا يعرف هذا المواطن المغلوب على أمره أن أحداً لن يجيبه، وإذا جاءته إجابة لن تحمل الحقيقة لأنها مخيفة، والكل بدأ يتهرب منها ومن أوزارها. وهذا الشاعر بدوي الجبل يعبر في قصيدته «تلك الأقانيم الثلاثة» عن السياسة ويقول: الليل بعد الرّاحلين طويل أو ما لصبغك يا ظلام نصول يطوي الزمان النابغين فتنطوي لذهابهم أمم ويهلك جيل إلى أن قال: ولقد جزعت من السياسة، إنّها غول وهل تلد السلامة غول دين السياسة، جاء فيه مبشّرا بالمشرقين: الجيش والأسطول قولوا لمن غصب القويّ حقوقه السيف باستردادهنّ كفيل وإذا تكلّمت الصوارم والقنا سكت الضعيف ولجلج المكبول وإذا علا صوت الضعيف فربّما أخفى صداه زماجر وصهيل واختم بما قاله الشاعر حمد بن خليفة أبو شهاب في قصيدته عن هيئة الأممالمتحدة التي قال فيها: ما في السياسة دين يستعان به على المظالم بين الخصم والحكم دين السياسة في الدنيا مصالحها لا بأس بالكسب من حل ومن حرم إن حدثوك فبالكذب الذي عرفوا وبالضمير الذي قد شيب بالنهم تلك الضمائر لو صيغت فمن حجر قاس ومن طمع بالحقد متسم لا شيء كالعدل إن العدل يصلحها ويصلح الناس من عرب ومن عجم هذه الصور الشعرية رغم قدمها لا تزال تُصور حالات سياسية قائمة، والشعب العربي لا يزال أكثر شعوب الأرض حديثاً عن السياسة غارقاً في أهوائها، ومهرولاً وراء أخبارها، متأثراً بأحداثها ومحبطاً من نتائجها. المواطن العربي قلق المنشأ وقلق العيش وقلق التفكير والمنام، في العرف القلق أول بوادر النجاح، ولدى المواطن العربي القلق من بوادر الخوف والفزع وركوب طريق الإحباط، لم تقر عيناه بهدوء منشود وسلام بَيّن موعود، حطمت الأوهام السياسية آماله وطموحاته، وعمّقت القنوات الفضائية والمقالات الصحافية الرخيصة من خلافاته وشكوكه، ومزقت الدسائس ثقافته وقناعاته، واعتمار الطواقي (الكوفيات) السياسية تتشكل حسب الظروف ومقتضيات الحاجة، لم يعد لمصلحة الوطن مكان في سوق نخاسة سياسية أصبح كل شيء فيه يُباع ويُشترى إلا من رحم الله «رحمتك يارب بالمواطن العربي في هذا الشهر الفضيل». [email protected]