«إن التذكّر هو الطريق لئلا نصبح قتلة» (فرنسوا فيللا) أنهى أبناء جيلي ممن ولدوا خلال الحرب اللبنانية التي بدأت في هذه الأيام من العام 1975، عمراً وهم ينتظرون انتهاءها. لكن الحرب لا تزال مستمرّة، ولا تزال تسرق أيامنا وتدخلنا في صراع مرير مع الذات والمجتمع والماضي والحاضر. صحيح أنها تصنع من يومياتنا العادية المعجونة بالتناقضات قصصاً سوريالية نحن (الضحايا والجلادون في الوقت ذاته، كوننا عُنّفنا وقبلنا التعنيف) أبطالها، إلا أن الحرب تحوّل أجسادنا من آلات قتل إلى أجساد هشّة يجتاحها القلق وتُعكّر صفوها نفوسنا المضطربة التائهة بين الانتصار على الواقع وتحدّي الموت، وبين الاستسلام للهزيمة والفشل في وجه كل هذا الفساد والدمار الثقافي والتراثي والأخلاقي والسياسي، قبل الدمار المعماري. فيمضي عمرنا في البحث عن هويتنا وحريتنا وتحرّرنا من الجماعة التي ترتكب المجازر باسمنا، مع أننا ننتمي إليها على الأوراق فقط . نتأرجح بين نوبات اليأس، لعدم تطوّرنا وفشل مشاريعنا الإنسانية البسيطة، وأقلّه لعدم عيشنا بكرامة وسلام، وبين نوبات التفاؤل والإصرار على التغيير من خلال نبش الماضي ووثائقه وشوائبه ومكنوناته العفنة، علّنا نصل إلى تفسير للحاضر لتغيير في المستقبل، فليس مصادفة أن تتناول غالبية أعمال الفنانين اللبنانيين، بشكل أو بآخر، تيمة الحرب حتى ولو حاولوا الابتعاد عنها. والحق يقال إنهم أبطال هذا التنقيب والبحث وإثارة الأسئلة والتفكير، إلى جانب نظرائهم من الباحثين والأدباء، الذين أخذوا على عاتقهم هذه المهمة الشرسة التي تحفّز ذاكرة اللبنانيين الجماعية والفردية على عدم طيّ صفحة الحرب من دون قراءتها جيداً. أعمال تلفت انتباهنا جميعاً، من السودان الى مصر وتونس والعراق وفلسطين وسورية، إلى أن الحرب هلاك وانتحار جماعي، ومن ثم تخلّف على جميع الأصعدة. أعمال فنية طلبنا هنا من خمسة من أصحابها الذين يتوزّعون على جيلين (طوني شكر، غسان سلهب، لميا جريج، فارتان أفاكيان، عمر راجح، وزينة الخليل)، ليكتبوا عن علاقة الحرب بالفن المعاصر، لكون تيمتها احتلّت الجزء الأكبر من أعمالهم. لقد فتحت أعمالهم المفاهيمية، بشهاداتها ورواياتها وبحوثها وأرشيفها وأفلامها وإبداعاتها، السؤال حول كيفية توثيق تجارب الحرب؟ وماهية قيمة وثيقة من هذا النوع وطبيعتها في ظل الواقع الوحشي؟ وهل الوثيقة سردٌ موضوعي للوقائع، أم أنها سجلٌّ للانطباعات والهواجس والأحلام، والكوابيس أيضاً؟ وهل يفي الفن المعاصر حقّ ضحايا الحرب ويعبّر عن مأساتهم بأمانة؟ هل هذه الأعمال قد تغيّر شيئاً في نفوس اللبنانيين المتناحرين حتى الآن؟ هل يمكن الفنون أن تذكّر بالحرب وفظاعتها، كي لا يعود الناس إليها والانجرار وراء كرنفالات الرعب؟ أم أنها جزء توثيقي فقط، خصوصاً أن هذه الأنواع من الفن، مثل الرقص المعاصر والفن التشكيلي والتجهيزات الفنية لا تصل إلا الى النخبة؟ وإذا كان للفنون تأثير إيجابي في هذا الصدد، كيف يمكن جعلها أكثر جماهيرية كي نصل إلى مبتغانا؟ أم أنها أعمال تعبّر عن وجهة نظر الفنان ورأيه وهواجسه المسكونة بذكريات الحرب؟ لكن التاريخ علّمنا أن الواقع الوحشي للحرب أشدّ وحشية من الخيال، ومهما وُصفت تفاصيله سيبقى أكثر إيلاماً وقساوة. الواقع السابح بالدم والراقص على أصوات الرصاص والمدفعيات لا تفيه حقّه، مسرحية أو رواية أو فيلم وثائقي أو تقرير تلفزيوني حيّ أو تجهيز فني.... فرائحة الدم، وعفن الجثث، وأنين الجرحى، وصدى عويل الأطفال والنساء، ولهثات الهاربين من القناصة والعسكر، وندبات صفعة السوط في معتقل مظلم تحت الأرض، وفحيح الصعق بالكهرباء، ولون وجوه الهالعين من الموت وعيونهم الجاحظة كأنها تتمسّك بهنيهات الزمن علّها تؤجّل الوداع... لا ينقل وقْعَها المرّ وسيط ولا منتج إبداعي. هي تُخزَّن في الذاكرة التي تنقلها الى لاوعينا ليترجمها في ما بعد بطريقته السيكولوجية الخاصة، لتتحول من مجرّد حقيقة عشناها الى كوابيس مرعبة، وبمجرّد ذكر هذه الحقيقة الفاجعة، يئِنّ الوجع، يهتزّ بدننا، ويستعيد جسدنا وعقلنا ونفسيتنا كل الألم دفعة واحدة، ليكون وقعه أقوى من لحظة وقوعه أحياناً. "شظايا" من التاريخ "شظايا" من الحقيقة (لميا جريج) حافة الهاوية (طوني شكر) في جلد شبح (غسان سلهب) ما لا يُصنع في الصين (فارتان أفاكيان) في مواجهة الإلغاء (عمر راجح) باللون الزهري أكافح (زينة الخليل)