كتب كثيرون - قديماً وحديثاً - عن إعجاز القرآن الكريم وبلاغته وسِحره، لكنَّ أحداً لم يخشع خشوعَ طه حسين أمام جمال الكتاب العزيز وجلاله! وقد سطَّر العلماء المجلَّدات النفيسة حول بلاغته وأسراره الفنيَّة، إلاَّ أنَّ أحداً منهم لم يَفْرِ فَرِيَّه! وقد تنافس الجميع منهم على اكتناه أوجه التفسير والتأويل لآياته، فما بلغوا شأوَ طه حسين في تبتُّله وتضرُّعه، ووجدانياته العميقة، أمام جلال هذا الكتاب المجيد! وصف المستشرق الفرنسي جاك بيرك (1910-1995م) علاقة طه حسين المتينة بالقرآن الكريم فقال: «إن طه حسين حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، منذ كان في التاسعة من عمره، ولم ينقطع يوماً عن تدبره، وقد حدَّثني بعضُ أهله عن المتعة الشديدة، التي كان يجدها في أطوارٍ كثيرةٍ في حياته، وعلى الأخص أثناء رحلاته إلى أوروبا، في الاستشهاد بالآيات القرآنية، يترجمها على الفور للحاضرين إلى لغةٍ فرنسيةٍ راقية». ويُقَدِّم – بيرك - مثالاً على تعلُّق طه حسين بالقرآن طوال حياته، فيقول: «لقد طُلِبَ إليه في مؤتمر السلام المسيحي، الذي عقد في فلورنسا في إيطاليا عام 1952، وكان من المدعوين، إلقاء محاضرةٍ، من دون أن يكون قد أُعلِمَ بذلك مسبقاً، فاضطر أن يُحاضر بالفرنسية، واختار موضوع «الإسلام والمسيحية، الصلاة والشِّعر»، فتحدَّث عن الصلة بين الإسلام والمسيحية، وعن معنى الإسلام لغةً واصطلاحاً، وعن الصلاة لغةً واصطلاحاً، وعن صلة الصلاة بالدعاء، وعرض على السامعين نماذجَ من الدعاء، كما وردتْ في آيات القرآن، ترجمها لهم إلى الفرنسية على الفور، ونماذجَ أخرى في الحديث الشريف، ترجمها لهم كذلك». في كتابه «مرآة الإسلام»، يقول طه حسين: «أمّا القرآن؛ فهو المعجزة الكبرى، التي آتاها اللهُ رسولَه (صلّى الله عليه وسلّم)، على صدقه فيما يُبَلِّغ عن ربِّه سبحانه وتعالى. والقول في إعجاز القرآن الكريم يكثر ويطول، وتختلف وجوهه، وتختلف فنونه أيضاً، فالقرآن: كلامٌ لم تسمع العربُ مثلَه، قبل أن يتلوه النبي؛ فهو في صورته الظاهرة، ليس شعراً، لأنه لم يجرِ في الأوزان والقوافي، والخيال، على ما جرى عليه الشِّعر. ثم هو لم يشارك الشِّعرَ، في قليلٍ أو كثيرٍ من موضوعاته ومعانيه؛ فهو لا يصف الأطلال والربوع، ولا يصف الحنين إلى الأحبَّة، ولا يصف الإبل في أسفارها الطوال والقصار... وليس فيه غزلٌ، ولا فخر، ولا مدحٌ، ولا هجاءٌ، ولا رثاءٌ، وهو لا يصف الحرب... لا يعرض من هذا كله لشيءٍ، وإنما يتحدث إلى الناس عن أشياءَ، لم يتحدث إليهم بها أحدٌ من قبله، يتحدث عن التوحيد، فيحمده ويدعو إليه، ويتحدث عن الشِّرك، فيذمه، وينهَى عنه، ويتحدث عن الله، فيُعظمه، ويصف قدرته التي لا حدَّ لها». ويُبرِز طه حسين قدسية القرآن، ونزوله من لدن حكيمٍ عليم، فيقول: «كل هذا وأكثر جداً من هذا يتحدث به القرآن إلى الناس، على لسان رجلٍ من قريش، لم يتعلَّم قط كتابةً ولا قراءةً ولا حساباً، ولم يجلس - قط - إلى أحبار اليهود، ولا رُهبان النصارى، ولا أصحاب الفلسفة، وإنما هو رجلٌ عربيٌّ أُمِّيٌّ، كأكثر العرب، لا يعلم من أمر الدنيا إلا مثل ما كان أوساطُ العرب يعلمون! وهو مع ذلك يُجادل اليهود في التوراة، ويجادل النصارى في الإنجيل، ويصفهم بأنهم يكذبون على موسى، ويقولون على المسيح غيرَ الحق، كل ذلك، وهو لا يقرأ التوراة، ولا الإنجيل، وإنما ينبئه الله نبأ الحق بما في كليهما، وهو لم يأتِ لنسخ التوراة، ولا لنسخ الإنجيل، وإنما جاء مصدقاً لما بين يديه منهما... ثم يُنبئ الناس في الدنيا، بما تقول ألسنتهم، وما تعمل جوارحهم، وما تُضمر نفوسهم. نجد هذا كله في القرآن، الذي يتلوه هذا الرجل الأُمي، والذي أُخِذَ في تلاوته فُجاءةً ذات يومٍ، بعد أن بلغ الأربعين، وأنفق ثُلُثَي عمره في الدنيا يحيا كما يحيا غيره من قريش، فلا غرابةَ أن يبهر قريشاً، وسائر العرب، هذا العلمُ الذي جاء به فُجاءةً». روعة نظم القرآن لكنَّ للقرآن وجهاً آخر من وجوه الإعجاز، لم يستطع العربُ أن يُحاكوه أيامَ النبيّ، ولا بعده، ذلك هو نظم القرآن، أيْ أسلوبه في أداء المعاني، التي أراد الله أن تُؤَدَّى إلى الناس. لم يؤدِّ هذه المعاني شِعراً، كما قدَّمنا، ولم يؤدها إليهم نثراً أيضاً، وإنما أدّاها على مذهبٍ مقصورٍ عليه، وفي أسلوبٍ خاصٍ به لم يُسْبَق إليه، ولم يُلحق فيه. ليس شِعراً، لأنه لا يتقيَّد بهذه القيود التي عرفها الكُتّاب في الإسلام، وإنما هو آياتٌ مُفصَّلةٌ، لها مِزاجها الخاص في الاتصال والانفصال، وفي الطول والقِصَر، وفيما يظهر من الائتلاف والاختلاف، تتلو بعضَ سوره؛ فإذا أنتَ مُضطرٌ في تلاوتها إلى الأناة والتمهل، لأنها فُصِّلتْ في ريْثٍ، ومهَلٍ، لأداء معانٍ تحتاج إلى البسط والرَّيْث، كالتشريع مثلاً، ووصْف ما كان يُثار بين المسلمين والمشركين من الحروب والمواقع. وتتلو بعضَ سوره؛ فإذا أنتَ مضطرٌ إلى شيءٍ من السَّرَع، لأنها تؤدي معاني يحتاج أداؤها إلى القوة والعنف، قد فُصِّلت آياتها قِصاراً مُلتئمةَ الفواصل، تقرأها فكأنك تنحدر من علٍ، وذلك حين يُخَوِّف الله عبادَه، ويشتد في تخويفهم؛ فيأخذهم من جميع أقطارها، ويقطع عليهم طريق الجدال والحِجاج. ويستعرض - طه حسين - بأسلوبه الساحر، وفهمه العميق، روعةَ القرآن، وتأتيَه العجيب الأخّاذ، فيقول: ثم يقص في سورةٍ أخرى نفس الأنباء، فتقْصُر الآيات وتسرع، وتتسق الفواصل وتنسجم، وتتكرر عباراتٌ بعينها في آخر كل قصةٍ، لأنه يتجه إلى الإرهاب والإثارة والإحاطة بالسامعين والقارئين، وإعجالهم عن التفكر والتدبر؛ كأنما أخذتهم من كل مكانٍ ريحٌ عاصفة لا يجدون منها مهرباً، ولا يرون لأنفسهم عنها مصرفاً؛ فهي تصبُّ عليهم العِبَر والعِظات والمَثُلات صبَّاً ... فهم لا يملكون إلا أن يُذعنوا لما يُصَبُّ عليهم، لا يجدون من الوقت، ولا من القوة، ما يتيح لهم رجعَ الجواب، أو الجِدال في بعض ما يُصَبَّ عليهم. وإنما هي الآيات تتابع قِصاراً أشدَّ القِصَر، متسقة أروعَ الاتساق، والعِبَرُ القاصمةُ تُستنبط منها في سَرَعٍ سريع أيضاً! وهم لا يكادون يفزعون من قصةٍ، حتى تتبعها قصةٌ أخرى، تأتي في إثرها في سرعةٍ خاطفة، وقوةٍ مذهلة. ويضرب طه حسين أمثلة على ذلك، فيقول: «واقرأْ إنْ شئتَ سُورتَين، كسورة الشعراء، وسورة القصص؛ فستجد السرعة كل السرعة، والقوةَ كلَّ القوة في السورة الأولى، وستجد الأناةَ والمَهَلَ في السورة الثانية، ولكنك ستجد الروعةَ في السورتين جميعاً، تروع أولاهما بما اختُصَّتْ به من هذه السرعة، وتروع الأخرى بما امتازت به من الأناة، وذلك في القرآن كثير! وسواءٌ قرأتَ السور السريعة، أو السور المُستأنية، فسترى من جمال اللفظ وروعة الأسلوب، واتساق النظام، ما يسحرك ويبهرك، ويملك عليك أمرك كله؛ فإذا أنتَ خاشعٌ لما تسمع أو تقرأ، مُعجَبٌ به مُستزيدٌ منه، حتى حين يستأثر بك العِنادُ، وتتكلَّفُ من إظهار الإصرار والاستكبار، والإعراض والإباء». وأخصُّ مزايا القرآن، أنَّ الذين يقرأونه، أو يسمعونه، من دون أن يؤمنوا به يكذبون؛ فهم حين يقرأونه أو يسمعونه، يُناقضون أنفسهم: يُظهِرون الإباءَ، ويُضمِرون الاستجابةَ، قد اختلفت قلوبهم، وألسنتهم، ووجوههم، فقلوبهم تُذعِن، وألسنتهم تُنكِر، ووجوههم تُعرِض، إلا أن يطبع الله على قلوبهم، ويطمس على عقولهم، ويجعل في آذانهم وقراً. وحدث أنه في عام 1946، عندما انتقد الأديب الفرنسي أندريه جيد الإسلامَ انتقاداً صريحاً في كتابه «الباب الضيق» قائلاً: «إن الإسلام يكتفي بتقديم الأجوبة، ولا يدعو إلى استخدام العقل»! انبرى له طه حسين، فردَّ عليه برسالةٍ، صدَّرها نزيه الحكيم في ترجمته لكتاب أندريه جيد، قال فيها طه حسين: «لم تُخطئ أنتَ، وإنما دُفِعتَ إلى الخطأ، فلقد خالطتَ كثيراً من المسلمين، ولكنك لم تُخالِط الإسلام؛ فليس على الإسلام بأسٌ، مما ألقي في روعك خُلطاؤك المسلمون. ولقد عرفتَهم في عصرٍ مؤلمٍ من تاريخهم، عصر انحطاطٍ في العلم بالدين، وفي الشعور الديني جميعاً! ولم يكن من اليسير أن يُظهِرَك الذين لقيتهم من المسلمين على حقائق الإسلام، فلو قد تعمَّقوا الدينَ تعمُّقاً دقيقاً، لأظهرك على ما يُثير القرآنُ من مسائلَ، وما يعرض من جواب... فالإسلام لا يُغري بالدعة، ولا بالخمول، وإنما يحث على التروية والتفكير، ويدعو إلى التدبر والاستبصار، وأيُّ شيء أدلُّ على ذلك من القرون الخمسة الأولى في تاريخه، وما ينبغي أن تحمل على الإسلام، بل على مؤثراتٍ أجنبيةٍ، تَبِعةَ ما رأيتَ إلى التسليم... وهناك حقيقةٌ لم يُظهرك عليها العربُ، ولا المستعربون، وهي هذا القلق الديني، الذي أثاره الإسلام في النفوس أثناءَ القرن الأول، والثاني للهجرة، هذا القلق الديني الخصب، الذي منح الآدابَ العالميةَ من شِعر الحُبِّ العذريِّ، والطموح إلى المُثُل العليا، ما ليس له في الآداب الأخرى نظير»! وحين التقى أندريه جيد طه حسين في القاهرة، عام 1946، راح يستفسر منه عن الإسلام، في عنايةٍ جادَّةٍ، وما لبث أن قال لطه حسين: «أعترف بأنكَ قد أصبتَ في خطابكَ»! وعلَّق طه حسين في تكريم أندريه جيد بعد وفاته، قائلاً عنه: «بدا لي أنه لم يكن مُصيباً في تفكيره - عن الإسلام - وأخبرته برأيه ذلك، فتقبَّله مني عن سماحةٍ واقتناع».