بعد مرور عامين على انطلاق ما عرف بثورات الربيع العربي، وفي ظل انسحاب شبه جزئي للولايات المتحدة من الشرق الأوسط، يتساءل المراقب: هل لا يزال الصراع والمنافسة قائمين بين موسكووواشنطن على النفوذ في هذه المنطقة التقليدية من العالم، والتي تهم واشنطن بالدرجة الأولى لأسباب كثيرة، كما أنها شهدت حضوراً وتحالفات تاريخية مع الاتحاد السوفياتي من قبل، ومع روسيا الوريث الشرعي له اليوم؟ حكماً هناك حقائق تاريخية عدة لا يمكن إنكارها تتعلق بالمشهد الآني، أولاها تبدأ بالورطة الأميركية في أفغانستان والعراق، وما جلبته من أزمات اقتصادية طاحنة على الولاياتالمتحدة، وفي المقابل كانت روسيا تدفئ أوصالها بعائدات النفط بعد أن تخطى البرميل حاجز المئة دولار، وبدأت في الألفية الجديدة بقيادة بوتين بالسعي إلى استعادة نفوذها ثانية. هل كان الشرق الأوسط ضمن دائرة الاهتمامات الروسية الجديدة؟ المحقق أن تلك البقعة من العالم كانت الحلم الذي راود القياصرة الكبار منذ زمن بطرس الأكبر وكاترينا العظيمة وصولاً إلى بوتين، ولم يغادر حلم الوصول إلى المياه الدافئة مخيلة الروس. وهذا ربما فسر بدرجة أو بأخرى بعض ما يجري في سورية لأسباب استراتيجية تتصل بفكرة الهيمنة على المقدرات العالمية. قد يخطر في بالنا بداية أن نتساءل كيف ينظر الروس إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما؟ وبعيداً من المجاملات البروتوكولية والتهنئات القلبية الحارة لبوتين ومدفيديف مع أوباما، فالاتجاه الغالب في موسكو كان يفضل فوز منافسه رومني لأنه أكثر وضوحاً حيال روسيا ولأنه، والتعبير هنا لفيودور لوكيانوف رئيس تحرير مجلة «روسيا في السياسة العالمية»، يمكن أن يمثل «بعبعاً مثالياً» يمكن استخدامه عند ظهور الحاجة إليه محلياً لهذا الغرض أو ذاك. أما أوباما فغالبية الروس ترى فيه «منافقاً بارعاً» في خلق تصور وهمي في شأن إقامة علاقات ثقة متبادلة من دون أن تكون هكذا في الحقيقة. والثابت أنه ما بين بوتين الحالم بعودة النفوذ الروسي إلى الشرق الأوسط، وأوباما المنسحب جزئياً منه، متجهاً بثقل الاستراتيجية الأميركية إلى المحيط الهادئ، تبقى علامة الاستفهام الأهم: «هل لا تزال للقوتين الكبريين القدرة والنفوذ ذاتهما اللذان تمتعا بهما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أم إن هاتين القوة والمنعة قد تضعضعتا نتيجة ظهور قوة ثالثة ربما تتمثل في الإسلام الراديكالي، ما يجعل تأثير موسكووواشنطن في الأحداث في الشرق الأوسط أضعف من ذي قبل؟ من جهة ثانية تطرح إشكالية الطاقة والتي كانت ضمن أهم مرتكزات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لعقود طويلة، تساؤلاً حول الأهمية المستقبلية للشرق الأوسط، ذاك الذي كانت تعتمد عليه طوال عقود في وارداتها النفطية، واليوم مع ظهور احتياطيات النفط الأميركية غير المسبوقة والتي تفوق ما هو في الشرق الأوسط بمراحل، تقل ولا شك، وإن كانت لا تنعدم، المكانة التي للمنطقة في سلم الأولويات الأميركية. أما عن روسيا فلم تعتمد بدورها على الهيدروكربونات المستوردة من الشرق الأوسط يوماً ما، واكتشافاتها من النفط والغاز تتوالى يوماً تلو الآخر، لا سيما في المناطق القريبة من القطب الشمالي. فهل في المشهد تناقض بينيّ ما؟ ذلك أنه إذا كانت الأهمية التي تمثلها الطاقة للقطبين قد تراجعت فما الذي يدفع المنافسة من جديد للاحتدام بين النسر الأميركي والدب الروسي؟ حكماً للربيع العربي أو الشتاء الإسلامي دور ما في تلك المنطقة التي تمثل نقطة محورية في الخريطة العالمية. ذلك أن الاضطرابات الناشئة بفعل الثورات الأخيرة يمكنها أن تؤثر في البناء التكتوني العالمي من جهة، ومن ناحية أخرى فإن أحداً لا يملك تصوراً لمستقبل تلك الدول، وتداعيات القلاقل فيها على حال الاستقرار الدولي في المستقبل المنظور، عطفاً على أن فكرة الخلافة الإسلامية العالمية التي يذهب إليها «الإسلاميون الجدد» في دول الربيع العربي، تسبب ولا شك للقوى العظمى حالاً من الخوف تتصل برؤيتهم لجهة تراجع نفوذهم الإقليمي، الأمر الذي سيؤثر في الاستقرار العالمي. هل كانت ثورات الربيع العربي منطلقاً ل «حرب باردة مصغرة» بين واشنطنوموسكو؟ الحقيقة التي لا مراء فيها أن ما جرى في العالم العربي ويجري منذ 2010 وحتى الآن شكل تحدياً جديداً أمام موسكووواشنطن. ويمكن القطع بأن الأميركيين قد خيل إليهم أنهم إزاء ظاهرة مماثلة للثورات المخملية في أوروبا الشرقية أواخر الثمانينات، عندما انتفضت شعوب تلك الدول ضد الأنظمة التوتاليتارية الحاكمة. أما الروس فراجت بينهم (وربما يكون ذلك صحيحاً إلى درجة ما) نظريات المؤامرة، التي تؤكد بيقين مطلق أن كل ما جرى ليس إلا فصولاً متتابعة من مؤامرة أميركية جرى الإعداد لها منذ تصريحات كوندوليزا رايس عن الفوضى الخلاقة، وبهدف أميركي يرمي إلى إعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لما فيه مصلحة واشنطن وحلفائها. هل غاب عن الأميركيين والروس شيء ما؟ قطعا، المقارنة لا تستقيم بين دول أوروبا الشرقية وتراثها العلماني السياسي إن جاز التعبير، ودوغمائية العالم العربي والإسلامي النازع إلى زمن السلف الصالح والذي فرز المشهد الأصولي الحالي. لكن يمكن القول إن المشهد حتى الساعة، لا سيما في ظل عدم وجود رؤية موحدة لحل الأزمة السورية، يمثل «حرباً باردة مصغرة»، قابلة للاتساع حال اشتعال المنطقة عمداً أو عفواً، حرباً بدأت تظهر في أجواء العلاقات الأميركية الروسية ولا يملك بوتين أو أوباما في شأنها رؤية استراتيجية في واقع الأمر. فكلاهما يميل إلى التعامل العفوي مع التحولات الجارية في العالم باستمرار بدلاً من محاولات وضع استراتيجيات ما لمواجهتها، وفي هذا الأمر تتمثل الكارثة لا الحادثة، الأمر الذي يعود بنا إلى دائرة الحرب الباردة وربما الساخنة الكبرى. * كاتب مصري