ما الذي يجعلنا في مواجهة الصمت العريض إزاء الكتابة؟ هل هو الخوف مما نجهله أم غياب القدرة المطلوبة لتفكيك هذه المنظومة المهملة على حساب مفاعيل أخرى رنانة في قاموس النقد الأدبي المتخم بالمنظومات النقدية التي أُشبعت دراسة، حتى طال أثرها صميم الحالة الكتابية أو الوظيفة، كما يسميها رولان بارت، وبالتالي غاب المكون المفهومي للكتابة عن طاولة البحث النقدي، على اعتبار أنها من إحدى زوايا النظر، تُعد مفهوماً ثقافياً ذي مرجعية فلسفية وسيكولوجية تتكئ على أعتاب منطلقات الكاتب ومشاغله الحثيثة؟. يقول جاك دريدا: «إن الكتابة تعتبر استكمالاً للإدراك حتى قبل أن يعي الإدراك نفسه»، ومن هنا تفيض حمولة (الكتابة) بمفاهيم ثرية وموغلة في الصميم الإنساني بعيداً عن مشروع (الكاتب)، بما أنه مبدع ومنشئ لقطعة أدبية مكتملة، ولكن هذا البعد ليس في صميم جدليتنا المطروحة هنا التي تسلك سبيلاً مغايراً منفتحاً على آفاق الصنعة الكتابية لدى (الكاتب)، مرهونة بانفعالاته السيكولوجية الإبداعية، ضمن سياق سعيه الحثيث في تطويع هذا المنجز (الكتابة) التي تغيب أو غابت في ما يظهر في وسطنا الأدبي والثقافي الراهن، ولم تعد شاغلاً ومشغلاً في آنية التشكيل الكتابي المطروح، بل أضحت في اعتقادي تحصيل حاصل، وهذا ما يدعو إلى القلق حقاً! ننظر هنا إلى معضلة حاضرة، إنها مقاومة الوعي الشديدة، وحالته الأبية الرافضة لتشكيل مفهومٍ مغاير للمسار الكتابي المحلي الذي يضخم الموضوع، ويؤجج سلطته في مواجهة المعنى الثوري للكتابة في سبيل تصنيع مفاهيم معلبة، لا ترنو إلا إلى قطف لحظة شبقية للكتابة المجردة من فعلها الثوري الأسطوري، لتستحيل في ما يعقب ذلك، الكتابة في مظهرها المفرغ من حساسية الكتابة، موضوعاً أو كومة من المعطيات المتخمة باللغة الموجهة، والغايات المسبقة التصنيع في معامل الوعي المنقوص أو الواقعي المنهك بممارسات السائد والمغري موضوعياً، بحسب إمكانات القيمة الاجتماعية بغض النظر عن تقويمها، بالتالي يفشل الكاتب في إطلاق سراح وظيفته الكتابية، فيفشل في القبض على اللحظة التي تولد فيها الكتابة الفارقة. يقول رولان بارت في معرض حديثه عن عدم قدرة الكتابة الفرنسية في لحظة تاريخية ما، أن تتخلى عن سيطرة المعطيات الدلالية للأدب التي تمليها البرجوازية في ذلك العصر، يقول: «الوحدة الأيدولوجية للبرجوازية قد أنتجت كتابة وحيدة، وإنه في الحقب البرجوازية – الكلاسيكية والرومانسية - لم يكن ممكناً تمزيق الشكل ما دام الوعي غير ممزق...». قد تنجح الكتابة وتكون حيادية في رصدها لِما يحوم حول فعاليتها، فالكتابة غير الكلام، الكلام ربط لحظي ينبثق من الحالة ومقتضيات تفسيرها. أما الكتابة فهي ربط مؤجل، يستلهم الماضي في حدود الزمن اللحظي الممتد واللانهائي، تفكيك لمدلولات ومعانٍ انفعالية، يجب أن تحظى بنمط أو بكتابة مؤجلة، لا تتلصص على فعل الكلام، ولا تختلس مضامينه. على الكتابة أن تكون فعلاً مستقلاً، أن تكون سابقة على التفكير، لا بل أن تكون مادة التفكير، بحيث لا يتسنى للتفكير أن يشتغل خارج الكتابة. هذا في ما يخص الكتابة، ولست أحيل هنا إلى المهمة أو الوظيفة الأسطورية للغة التي تحرك التفكير أو التي يستحيل من دونها فعل التفكير ذاته، لكنني أتشبث بالعلاقة التي تربط الكتابة بالتفكير، العلاقة التي تبتكر أفقاً مغايراً، تنشأ منه علاقة حوارية عصية على التقعيد أو الاستحالة، غير قادرة على التكتل في وعاء التنظير أو المنطقية الصلبة المملة، شيء شبيه بنقطة الصفر للكتابة التي تحدث عنها بارت وهي ما وصفها موريس بلانشو بهذا الوصف المفارق اللذيذ: «أن نكتب بدون الكتابة، أو نوصل الأدب إلى نقطة الغياب حيث يتوارى، إذ لا نعود نخشى أسراره التي هي أكاذيب، هنا تكمن « نقطة الصفر للكتابة»، هنا يكمن عدم الانحياز الذي يبحث عنه كل كاتب عن قصد أو غير قصد الذي يؤدي بالبعض إلى السكوت». إنني عندما أتحدث عن الكتابة، الكتابة كواقع مفارق ومستقل، تنأى بنفسها عن الانصهار في مفاعيل الأدب أو النص كحصيلة نهائية، إنني أطرح المسألة ككيان قائم بذاته، مكتفٍ بوجوده الخالص، فعندما أتأمل الكتابة أو النص بصورة أدق في ساحتنا الأدبية، لا ألمح تجلٍ ظاهر لهذا (الوجود)، تبدو (الكتابة) وكأنها تأتي متأخرة بعد مراحل نشوء النص كاملة، قد يقول قائل إن (الكتابة) لا تحتاج إلى قصد أو عناء، إنها تأتي حاملة للنص، وليست مختبئة إلا كونها موجودة في الأمام، وأقول، إنني أبحث هنا عن عملية ظهور الكتابة، الهم الذي يؤجج حضورها، ووجودها المليء بالبهجة والتألق، لقد وضع رولان بارت الكتابة بين أفقية اللغة وعمودية الأسلوب، وقرر متانة وجود اللغة والأسلوب، ليس لنسيان الكتابة، ولكن لتمكين وتجذير الكتابة، إذ قرر أن اللغة والأسلوب «يرسمان للكاتب طبيعة ما، لأنه لا يختار أياً منهما». تأتي الكتابة كقيمة، كما يقول بارت بين اللغة والأسلوب، ترسم حدود فعاليتها في انتقاء أو تشكيل القيمة التي يصير إليها النص، ليجد بعد ذلك وتيرته أو نغمته المؤثرة التي تفعل أو تلقي بسحرها على المكتوب، ما يؤكد جدارتها في أن تصبح مكوناً بالغاً في الاستقلالية، ومستحقاً للعناية الإنشائية، كمفهوم يقوم على أساس يطغى على ما سواه من مفاعيل ابتكار النص، أي نص كان، وهذا ما يحيلها إلى أن تكون وظيفةً متكاملة، تضم في كيانها المستقل والمعتبر، مفاعيل شتى تستلهم أطرافها من الإبداع كمقولة أو مفهوم ومن المجتمع كبيئة، ومن تصانيف شتى كاللغة والإنسان، وحسبنا أن نتأمل أخيراً بما قاله بارت عن هذه الوظيفة: «الكتابة وظيفة: إنها العلاقة بين الإبداع والمجتمع، إنها اللغة الأدبية: وقد حولها المقصد الاجتماعي، وهي أيضاً الشكل المقبوض عليه في نيته الإنسانية والموصول نتيجته إلى ذلك بأزمات التاريخ الكبرى». * كاتب سعودي.