كيف ولدت الأساطير؟ كانت مجرد محاولات ساذجة لتفسير الكون ومظاهره وما يعمر الأرض والبحر والفضاء من إنسان ونبات ودواب. ولأن مصر كانت أسبق الأمم في سلم الحضارة، فسرعان ما أصبحت الأساطير جزءاً لا يفترق عن دينها. ومن مصر كان تأثّر الأقطار القريبة منها، فكانت بابل هي التالية في سلم الحضارة بأساطيرها السومرية والآشورية. ولكن كيف بدأت الأساطير اليونانية؟ كان لتوزيع الطبيعة الجغرافي لليونان نصيب في ترقيق أمزجة اليونانيين، إذ قلّما عرفوا قسوة المناخ التي عرفتها معظم الأقطار الشرقية، عدا عمّا أكسبه توزيع الجبال تلك الأقاليم اليونانية من «استقلال محلي» كان نواة لنظام المدن المستقلة لاحقاً، الذي كان بدوره مصدراً رئيساً لأساطير الحب والشجاعة والمحبين الذين حفل الأدب اليوناني برموزهم. تلك الأجواء الحرة والمظاهر الخلابة ساهمت في ولع أهل اليونان بالحرية والجمال، ورفضهم مظاهر الذل والاستعباد. فكان تفكير الأحرار. وما أدراك ما تفكير الحر حين يصفو خياله ويعتدل مزاجه ويسمو عقله! وهكذا وصلت اليونان وسبقت غيرها إلى تلك الحضارة التي لا نزال نتذكّرها إلى يومنا، فكان الجو العام مزيجاً من الشعر في أرقى صوره، والتمثيل في عبقرية القائمين عليه، والفنون المتنوعة من نحت وتصوير وبناء وزخرفة، ورياضات متنوعة من جري وسباحة ورمي رمح ومصارعة، أضف إليها مواضيع الفلسفة والسياسة والأخلاق واللغة والبيان... إلى آخر المعارف والعلوم الإنسانية. ولا نتصور أن اليونان كانت في عالم الحرب أقل منها في عالم الفكر، فهي التي هزمت شوكة فارس في معركتي سلاميس وماراثون، التي منها جاءت تسمية السباق العالمي بالماراثون. حين حمل بشرى النصر من أثينا إلى أسبرطة العداء الأثيني الشهير ليبلغ الأسبرطيين بأنباء الحرب. إنها اليونان التي لا تبدأ دورة للألعاب الأولمبية إلا بانتقال الشعلة منها - ومن جبل الأولمب تحديداً - إلى الدولة المضيفة كرمز لانتقال المبادئ والقيم اليونانية القديمة إلى العالم الحديث. فماذا تقول النظرية التاريخية؟ إن أبطال الأساطير هم في أساسهم أبطال البشر والقبائل البدوية الضاربة في القدم، حين أخذ الرواة ينسجون حولهم القصص والحكايات المبالغ بها، التي تضاف إليها الزيادات وهوامش الحشو مع كل جيل يأتي، حتى ارتفع مصاف أولئك الأبطال في أذهان الناس إلى مصاف الآلهة قبل وجود الأديان، كمحاولة كما أسلفنا لتعليل أصول الخليقة، فمثلاً خذ عندك «قدموس» الذي تذكر الأساطير أنه زرع أسنان التنين فأنبتت جيلاً من المحاربين المسلحين، ما هو في الواقع سوى أحد المهاجرين الفينيقيين الذي نقل إلى اليونان أحرف الهجاء وعلّمها للأهالي هناك، وقيل إن عمله ذاك كان القبس الأول للحضارة اليونانية. وسيد الأولمب «زيوس» لم يكن إلا ملكاً من ملوك كريت، وما حربه ضد المَرَدة والتنكيل بأعدائه سوى لانتزاع ملكه. وقد يضحك إنسان العصر من وثنيات الأساطير التي انتشرت بين الشعب اليوناني القديم، غير أنها كانت كل ما لدى القوم لتفسير مجريات الحياة وظواهرها، ومع ذلك فقد تطور الفهم بظهور الحركات الفكرية، حتى ازدهرت الفلسفة النظرية التجريدية التي بدأت بالشاعر المتفلسف «اكزينوفانس»، الذي بدأ بمهاجمة مجموعة الخزعبلات التي كانت سائدة، فالله هو الواحد لا شريك له، ولعل بدايات أفكاره تلك كانت أول بذرة للإنسان في الغرب عن وحدة الوجود. لكن ما يهمنا في هذا الصدد أن من طبيعة الإنسان أن يتطور في عقله ومعدلات عيشه وأساليب تطويعه الطبيعة ومصادرها، فقد يكون بدأها بالأساطير، ولكنه لم يقف عند حكاياتها. غير أن هذا الإنسان المتطور كم نسبته من المجموع العام العربي؟ فعلى ما نبدو أننا نتمتع بذهنية تمر عليها الكلمات من البداية إلى النهاية من دون أن تُحدِث فيها تغييراً إلا إن كان للوراء، أمّا الأمام فموضوعه يخص القلة التي حقاً ضاقت ذرعاً بنداء في وادٍ لا صدى يوصل. ولا أصعب من الاشتباك في الحياة بتفاصيلها مع بشر ليسوا على قدر تواصلك العقلي، فإن كانت تلك الأساطير القديمة على سذاجتها قد ولّدت عوالم من الفنون والمعارف والعلوم، فماذا ولّدت أساطيرنا الخرافية الحاضرة..؟! بل ماذا ولّدت لليوناني وهو الوريث الشرعي لحضارته..؟! [email protected]