أعاد اغتيال القائد اليساري التونسي شكري بلعيد، وقبله تهديد جماعات إسلامية في مصر باغتيال قادة «جبهة الإنقاذ الوطني»، طرْحَ مصير العمل السياسي المعارض في بلدان عانت وطأة الاستبداد والقمع، التي لم تخل يوماً من تصفية الخصوم بشتى الوسائل المتاحة للسلطة. ترافَقَ التهديد مع تصعيد الأعمال العنفية التي طاولت الأشخاص والمؤسسات، إضافة إلى تصعيد في لهجة خطاب الرفض للآخر والوعيد بدولة تسكت مخالفي التيارات الدينية بمكوناتها الأصولية والسلفية والإخوانية. لم تأت عمليات القتل والتهديد به من فراغ في كل من تونس ومصر، ففي البلدين اللذين أطلقا الانتفاضات العربية، وحّد شعار محاربة الاستبداد وتحقيق مطالب الديموقراطية وحرية الرأي والإعلام والتعبير، جميعَ القوى السياسية، بل ذهب بعض التيارات الدينية في المبالغة والمزايدة إلى حدِّ تبني شعار الدولة المدنية ومنع التمييز بين المواطنين على أساس الجنس أو الدين أو العرق... وتبني شعار المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، وهي شعارات كانت توحي بتحوّل ما في فكر التيارات الدينية نحو قبول الآخر والاعتراف به، وبالإفادة من تجربة عملها السياسي وما عانته من اضطهاد. في وهج صعود الانتفاضات وزخمها الجماهيري، بدا أن الأمل بتغيير في ذهنية القوى السياسية، جميعها من دون استثناء، يترسخ تباعاً، مترافقاً مع طروحات مستقاة من التاريخ، عندما يشير إلى أن الأحداث الكبرى تجرف في طريقها مكونات وذهنيات تكون قد ترسخت لقرون، وتدفع إلى الأمام بقوى كانت تحتاج الى سنوات وعقود لتصل إلى السلطة. وما أن استوت الأمور في البلدين، إثر انتخابات ديموقراطية أدت إلى صعود التيارات الدينية الى الحكم وتحقيق غلبة لهم في البرلمانات، حتى عادت الأمور إلى البداية، فما جرى تخيله من تغيير في عقلية الحكم لدى التيارات الدينية نحو المشاركة وقبول الأطراف الأخرى، بدا وهماً وخيالاً، وأن ما طرح من ادعاءات «مدنية» خلال مسار الانتفاضات لم يكن سوى حيلة من حيل هذه التيارات، وذرّاً للرماد في العيون. وهكذا كشف حزب النهضة في تونس ومعه سائر التيارات السلفية، والإخوان المسلمون ومعهم أنصارهم من التيارات المشابهة لهم، عن وجوههم تجاه ما يرونه من مستقبل الحكم في البلدين، وهو مستقبل يرهن السلطة بهم ويزيح الآخرين من الطريق. اقترن وصول هؤلاء إلى السلطة بإعادة الشحن الأيديولوجي لهذه التيارات، واتخاذها حجماً متصاعد النفوذ، خصوصاً بعد اقترانها هذه المرة بالسلطة السياسية والسيطرة على أجهزة الدولة في البلدين. تجرّأ الإخوان المسلمون في مصر، مباشرة أو بالواسطة، على إصدار فتاوى تجرّم فيها القوى المعارضة لحكمها، وتضعها في خانة الكفر والارتداد والتمرد على ولي الأمر وعدم الخضوع له، واستتبعت ذلك بتهديد لقيادات متعددة بإزالتهم من الوجود. في السياق نفسه، لم تتورع قيادات في حزب النهضة التونسي، ومعها تيارات سلفية، من استخدام أسلوب التهديد بالقتل لمخالفي حكم «النهضة»، بل ذهب الحزب بعيداً في تشريع عمل «لجنة حماية الثورة»، والتي هي ميليشيات وبلطجية مسلحة وظيفتها التصدي لمعارضي حكم النهضة ومواجهة هذه المعارضة بشتى أنواع العنف، من قتل وحرق مقرات ومنع تظاهرات... إلخ، لكنّ الأخطر كان في ما ينطلق منه الإخوان في مصر ومن معهم، وحزب النهضة في تونس ومن معه، من أن خطابهم السياسي، المستند هذه المرة الى السلطة، يقترن بشحنٍ عماده التخوين والاتهام بالهرطقة والارتداد عن الدين وصولاً الى التكفير. في التاريخ العربي والإسلامي ازدهرت هذه الاتهامات، وكانت تصل الى ذروتها كلما احتدم الصراع السياسي أو الاجتماعي على السلطة، فلا تجد القوى المتصارعة سوى هذا الاستحضار لتبرير قتل الخصم دون أي عقدة ذنب. قبل وصول التيارات الدينية إلى السلطة، كانت قوى الاستبداد الممسكة بالحكم تلجأ إلى تصفية الخصوم، مستخدمة أحياناً فتاوى المؤسسات الدينية في مناسبات عديدة. لماذا وصلت التيارات الدينية اليوم إلى استخدام الإرهاب، تنفيذاً في تونس وتهديداً في مصر وسائر الأقطار العربية؟ ليس من صعوبة في تفسير هذا الخيار، فخيار الإرهاب يقع في صميم فكر هذه التيارات على امتداد تاريخها، وما تفعله اليوم يندرج في «العودة إلى الأصول». من جهة ثانية، لا يدخل في فكر هذه التيارات منطق مشاركة سائر القوى في الحكم والسلطة، أو اللجوء إلى تسويات واحتضانٍ ما يسمح بتكوين سلطة لا تكون حكراً عليها وحدها. كان يمكن هذه التيارات تقديم تنازلات أو تأجيل طروحات نهائية في السلطة، وضمان انضواء أوسع القوى حولها، بما يمكِّنها من مواجهة المعضلات الكبرى التي تواجه كلا البلدين، وتشرك أوسع أطياف المجتمع في إيجاد الحلول المناسبة لها، لكن فاقد الشيء لا يعطيه. أما الجواب عن السبب الذي جعل هذه التيارات تعود إلى منطق القتل للخصوم، فهو تبيان عجزها عن الحكم وإدارة شؤون البلاد، والتصدي للمشكلات الضخمة، خصوصاً منها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي طفت على السطح وباتت الموضوع الرئيس الذي يهم المواطن العربي. لم يعد الشعب قادراً على «الأكل « من الشعارات، بل يحتاج الى الخبز والعمل وتحسين مستوى المعيشة... في هذه المحطة المفصلية، كشف حكم التيارات الدينية عن عجز فاضح في تقديم الجواب العملي لهذه المشكلات، وفي فترة زمنية قصيرة لم يكن أحد يتوقعها. كان هذا العجز السبب الأول في تصاعد المعارضة والاندفاع نحو إسقاط حكم هذه التيارات، ولما كان الجواب السياسي مفقود لدى هذه التيارات، وجدت أن الوسيلة الأنسب لمواجهة هذه المعارضة يكون بإزالة قادتها من الوجود، فنفذت المخطط بقتل القيادي التونسي وتهديد الآخرين بالمصير نفسه. وأمام مأزق العجز لدى قيادات التيارات الدينية في كل من مصر وتونس، وعدم قدرتها على الدخول في تسويات سياسية، قد يجد البلدان نفسيهما في حمام دم تلجأ اليه هذه التيارات للحفاظ على السلطة، بعد أن حلمت طويلاً طويلاً في الوصول اليها. * كاتب لبناني