قبل أقل من شهر نشرت الجريدة البوسنية المعروفة «دنفني أفاز» (ساراييفو 24/2/2013) مقالاً بعنوان «البوسنة لا في الأرض ولا في السماء: دولة العجائب أم عجائب الدولة»، يستعرض ما آلت إليه الأمور من فشل هذه الدولة المهمة في موقعها وفي مواردها المهمة (التي يمكن أن تقارن بسورية) والتي لم يعد يهتم بها أحد وتعب منها الاتحاد الأوروبي على رغم بلايين الدولارات التي أنفقها عليها في السنوات الأخيرة على أمل بأن تلحق بالدول المجاورة (كرواتيا والجبل الأسود وصربيا) في تقدمها للانضمام إلى الاتحاد. في الجانب العربي لم يعد أحد يتذكر البوسنة وشكا زميل أخيراً من عدم نجاحه في إقناع ناشر بطبع كتاب له عن البوسنة على اعتبار أن «البوسنة لم يعد لها سوق». وحتى المعارضة السورية في الخارج التي ركزت طيلة 2011 على طلب التدخل الدولي على نمط البوسنة وكوسوفو لم تكن تعرف الكثير عن البوسنة ولا عن كوسوفو، وعندما تحمس ممثلون للمعارضة في الخارج وزاروا كوسوفو في صيف 2012 للاطلاع على «الخبرة الكوسوفية» بادرت واشنطن (التي كانت وراء التدخل العسكري في كوسوفو) إلى إطلاق رصاصة الرحمة على «المجلس الوطني» المتحمس للتدخل العسكري وعملت مع غيرها على تشكيل «الائتلاف السوري» برئاسة المهندس معاذ الخطيب الذي حُمّل مهمة التفاوض مع ممثلين للنظام من أجل التوصل إلى حل سياسي. في غضون ذلك، عندما لم يكن عدد الشهداء وصل إلى سبعة آلاف في سورية، كنتُ نشرتُ في 30/11/2011 في «الحياة» مقالة بعنوان «سيناريوات التدخل الدولي في سورية بين النموذجين الألباني والكوسوفي» عرضت فيها خطورة التدخل العسكري (على النمط الكوسوفي) وأولوية الحل السياسي (على النمط الألباني) الذي تمكّنت به المعارضة بدعم دولي من تخليص البلاد من أعتى نظام شمولي في أوروبا بواسطة صندوق الانتخابات. وكان مما حفّزني آنذاك على الكتابة الإعلان عن زيارة رئيس المجلس الوطني برهان غليون موسكو، ولكن عرفتُ بعدها من مصادر الوفد السوري أن الزيارة فشلت لأن الحل السياسي لم يكن أدرج بعد على أجندة المجلس الوطني وبقي كذلك إلى أن اختارت هيلاري كلينتون زغرب (المجاورة لسراييفو) لتطلق من هناك رصاصة الرحمة على المجلس الوطني لتفتح الطريق بذلك لتشكيل ائتلاف للمعارضة السورية أكثر انفتاحاً على الحل السياسي. المقارنة بين البوسنة وسورية ليست في مصلحة المعارضة ولا النظام، فالمعارضة السورية المطالبة بتدخل عسكري على نمط البوسنة أبعد ما يكون عن واقع البوسنة التي تحولت الآن إلى «دولة فاشلة»، ولا أحد في المعارضة السورية يسأل: «هل أنهى التدخل العسكري مشاكل البوسنة حتى نطالب بتدخل على نمط البوسنة؟». هذا هو جوهر الوضع في نموذج البوسنة الذي عبّر عنه أخيراً جمال خاشقجي في مقالته في «الحياة» بعنوان «مقاربة سورية - بوسنوية» في 16/3/2013. فالحرب بين طرفي الصراع كانت تحتدم في الوقت الذي تتم فيه الاتصالات السياسية إلى أن تم التوصل إلى توازن معين وفرض الحل السياسي على الطرفين. في نموذج البوسنة لم تكن واشنطن تمانع وصول «مجاهدين» عرب إلى البوسنة (صنّفتهم في ما بعد إرهابيين) ولم تكن تمانع وصول أسلحة عربية وتركية وحتى إيرانية إلى البوسنة عن طريق مطار زغرب، وهو ما يتكرّر الآن مع سورية مع فارق أن إيران ترسل ما تريد عن طريق العراق وليس عن طريق كرواتيا. لقد استمرت الحرب الأهلية في البوسنة ثلاث سنوات وبضعة شهور وانتهت إلى قتل مئة ألف شخص وتدمير واسع للبنية التحتية، وهو ما يمكن أن يتكرر إذا استمرت «الحرب الأهلية» كما أصبحت توصف في سورية عاماً آخر. ولكن الضغط الدولي (وبالتحديد الأميركي) لم يكن على الطرف الصربي فقط عندما قامت طائرات حلف «الناتو» بقصف المواقع الصربية في 30/8/2013 وأجبرت الصرب على القبول بالتفاوض، بل شمل الطرف المسلم أيضاً. فقد اعتقد الرئيس علي عزت بيغوفيتش أن تدفق «المجاهدين» والأسلحة عبر مطار زغرب سيقلب ميزان القوى لمصلحته، فأصدر بالفعل أوامره للهجوم المعاكس في تشرين الأول (أكتوبر) 1995 ونجح في اكتساح المواقع الصربية ووصل إلى ضواحي عاصمة الصرب بانيالوكا. ولكن بيغوفيتش يعترف في مذكراته (التي يبدو أنه لم يقرأها أحد من دعاة المعارضة السياسية للتدخل العسكري) أن السفير الأميركي في سراييفو جون مينزيز زاره يوم 12 تشرين الأول 1995 ليطلب منه وقف تقدم قواته باتجاه بانيالوكا، ثم عاد مرة أخرى في وقت متأخر و»قام بنبرة حادة بنقل رسالة من الناتو تحمل تهديداً بأن يقوم الحلف بتوجيه ضربات جوية ضد قواتنا إذا لم يتوقف القتال». ومع هذا التهديد أرسل بيغوفيتش فوراً قائد الجيش الجنرال راسم ديليتش إلى خطوط القتال لينفذ وقف القتال في 13 تشرين الأول. في نموذج البوسنة كان الطرف الذي يسلّح هو الذي يأمر بوقف القتال فوراً والبدء بتفاوض سياسي أفضى أخيراً إلى «اتفاقية دايتون» التي تحولت معها البوسنة إلى دولة فاشلة وغارقة في مشاكلها الداخلية على رغم مواردها الكبيرة التي كانت لتمكّنها من أن تكون قوة إقليمية في المنطقة بحكم موقعها الجيواستراتيجي. في نموذج البوسنة بقيت الدولة واحدة تضم أعداء الأمس الذين كانوا يقتلون بعضهم بعضاً من دون رحمة، ولكن التدخل الدولي أصرّ على نوع من التقسيم بحجة حماية كل طرف من الآخر، وهو ما يثير المخاوف في سورية أيضاً لدى كل من يرى خريطة السيطرة العسكرية للطرفين على الأرض. من دون كوابيس البوسنة يمكن القول إن الأمر الوحيد المتحقق حتى الآن وفي المدى المنظور أن سورية تسير بالفعل على خطى البوسنة، بوعي أطراف الصراع أو ومن دون وعيهم. * أكاديمي سوري