انتخب «الائتلاف الوطني السوري...» غسّان هيتو، المتحدر من أصول كرديّة، رئيساً للحكومة الموقّتة. وفور إعلان النبأ، اكتظت صفحات الكرد السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي بفيض جديد – قديم يغرف من معزوفة المؤامرة إيّاها، والتي تقول: «إن هذا الشخص ليس كرديّاً، لكونه لا يجيد التحدّث باللغة الكرديّة»، وأنه «لا يمثّل الكرد»، وانه «حصيلة مؤامرة وتواطؤ تركيا وقطر واميركا على الكرد السوريين»، وانه «مرشّح الإخوان...»، وأنه «ليس سوريّاً كونه قضى غالبيّة سني عمره في أميركا»، وانه «يحمل الجنسيّة الاميركيّة»، و «أن ابنه جهادي أتى من أميركا ليقاتل في دير الزور»... وأنه وأنه!. وربما طالبت قلّة قليلة جدّاً بالتريّث وعدم التسرّع في إطلاق الأحكام على الرجل، قبل ان نرى كيف سيكون أداؤه، وما الذي يمكن ان ينجزه للسوريين عموماً وللكرد على وجه الخصوص، كون بعض اقطاب المعارضة السوريّة، «منَّنوا» الكرد على انتخابه، كما «منّنوهم» سابقاً بانتخاب عبدالباسط سيدا رئيساً للمجلس الوطني السوري! وسيدا كرديّ حقيقيّ ومتحدر من عائلة وطنيّة كرديّة سوريّة لها جهد وباع في النضال السياسي الكردي، كما يسبق هيتو بسنوات ضوئيّة لجهة الانشغال بالهمّ السياسي والثقافي الكردي السوري، ومع هذا لم يقبل به الكرد السوريون، فكيف لهم ان يقبلوا بالسيّد هيتو؟، مع الاحترام لهذين المعارضين السوريين. وفور إعلان انتخاب هيتو، بدأ الكرد وغيرهم لعبة نبش ماضي هذا الرجل وحاضره، للتأكيد على عدم أهليّته لتولّي منصبه الجديد، وللتأكيد على انه لا يمتّ للكرديّة بأيّة آصرة وصلة! وهذا الموقف جرى على خلاف العادة الكرديّة في «نبش» التواريخ وكتب التراجم وسيَر المشاهير للتأكيد على كرديّة هذا المثقف او ذاك الشاعر أو الفنان أو المخرج او الفيلسوف أو المؤرّخ أو العالم أو الشيخ أو النبي! لدرجة ان بعض أكرادنا الأفاضل، وصل الأمر بهم الى «تكريد» النبي آدم والنبي نوح والنبي ابراهيم. وعليه، فالساسة والمثقفون الكرد حين كانوا يريدون التأكيد على الدور والتأثير الكردي في الحضارة العربيّة والاسلاميّة، وفي مرحلة التحرر الوطني السوري، كانوا يسردون قوائم طويلة عريضة من اسماء الساسة والقادة والمثقفين المتحدرين من أصول كرديّة، كصلاح الدين الايوبي وأحمد شوقي وعبّاس محمود العقّاد وقاسم أمين ومحمد كرد علي ويوسف العظمة وابراهيم هنانو... وفي الوقت عينه، تراهم الآن، يسعون ل «الطعن» بصدقيّة كردية هيتو وقبله سيدا؟! هذا السلوك الاعتباطي والارتجالي، إن جاز التعبير، ينمّ عن خلل في بنية الوعي السياسي والثقافي الكردي. ليس لكون هيتو «سوبر مان» او «رجل المرحلة»، وليس للدفاع عنه، كونه ليس متهماً أصلاً بالدفاع عنه، بل لأن الانجراف في تعاطٍ كهذا قد يدفعه (إن كان قد خطر في باله انه من أصول كرديّة)، لأن يتبرّأ «ضمناً» من هذه الأصول، ويعمل ضدّ مصلحة وحقوق المكوّن الكردي في سورية!. فبدلاً من الترحيب بانتخاب هيتو، ومطالبته بأن يكون على مستوى المرحلة واستحقاقاتها، وأن يكون صوت السوريين عموماً، وصوت المعارضة الوطنيّة الديموقراطيّة، الداعمة للحقوق الوطنيّة الديموقراطيّة الكرديّة، وحقوق كل الاقليّات، في سورية، نرى الكثير من كردنا، ينزلقون، في شكل شعبوي بل غوغائي، لاستهداف الرجل، والدفع به، ربما، لاتخاذ مواقف سلبيّة، تجافي الحقوق الكرديّة! هكذا، يبرع الكرد السوريون في اختلاق الخصوم والاعداء، بدلاً من تقليلهم وكسب المحايدين! ولأن الشيء بالشيء يُذكر، نرى ان بعض الكرد السوريين ممن يزعمون انهم منخرطون في الثورة السوريّة ويسعون لاسقاط النظام، يغرّد لسان حالهم، في الوقت عينه، على ايقاع إعلام النظام السوري، والحديث عن «الثالوث الشيطاني» المعادي للكرد: تركيا وقطر وأميركا!؟ فما هذا التقاطع الغريب والمعيب مع اعلام طغمة الاسد؟! إن هذه النغمة تثير الشكوك والريبة بقدر ما يمكن ان يثير انتخاب معارض غير معروف، كهيتو، من الاسئلة والظنون. لقد انزلق كردنا السوريون للتشكيك في هيتو، وكأنّ قادة الاحزاب الكرديّة «سوبرمانات» في السياسة والادارة والدراية في علوم التقانة والدنيا والآخرة! واذا أجرينا إحصاء او تحرّياً عن رؤساء الاحزاب الكرديّة السوريّة ال99، فقد لا نجد واحداً منهم يجيد اللغة الانكليزيّة! وربما نجد ان بعضهم لا يتقنون اللغة الأمّ (الكرديّة) قراءة وكتابة! فلبّ الاشكال ليس في ان غسّان هيتو يتقن اللغة الكرديّة أم لا. ذلك ان هنالك من يتقنها ويعمل تابعاً صغيراً للاستخبارات السوريّة والتركيّة والايرانيّة! هكذا يسود بين الكرد السوريين، مثقفون وساسة، ما يشبه «الطعن» و «النأي بالنفس» في الوقت نفسه، فنراهم لا يشتركون في أيّ مؤتمر بفعّالية، ثمّ يشككون في التمثيل الكردي فيه! ولا يشاركون لكنهم يطالبون بالحصص المنسجمة مع حجم الكرد ووزنهم في المعادلة السياسيّة الوطنيّة!؟ صحيحٌ جدّاً ان المعارضة العربيّة، الاسلاميّة منها والعلمانيّة، ما زالت غير متبرّئة من الموروث البعثي - الشوفيني، اثناء التعاطي مع حقوق الاقليّات القوميّة والدينيّة في سورية، ولكنْ صحيح أيضاً ان الكرد السوريين، لم ولن يحرجوا أو يعرّوا هذه الذهنيّة والسلوك لدى هذه المعارضة عبر انتهاج هذا النمط من التفكير والممارسة السياسيّة والاعلاميّة السلبيّة! وإذا افترضنا ان غسّان هيتو مرشّح الاخوان والسلفيين وثالوث تركيا – قطر – اميركا، فهل يقبل الكرد بمرشّح روسيا – ايران – الصين؟! ذلك ان الخيار الوطني الديموقراطي الخالص والنزيه، من المستحيل توفّره الآن. وما على السياسي المحنّك، الذي يزعم الدفاع عن حقوق الذين يمثّلهم، إلاّ التعاطي مع الوقائع بواقعيّة، والعمل على تغيير الواقع المفروض في إطار، وتحت سقف، الممكن. زد على ذلك ان من يزعم ان الاخوان والسلفيين قد سطوا على الثورة السوريّة، وهذه حقيقة لا خلاف عليها، ان يسألوا أنفسهم: لماذا ترتكوا الثورة وحيدة، ينهشها الاخوان والسلفيون، حتّى أوصلوها الى هذا الدرك من الطائفيّة المقيتة؟! قصارى القول: حين تولّى بشّار الاسد الحكم، مطلع سنة 2000، هللت له كل اطياف المعارضة السوريّة، ومن بينهم الاكراد. وعوّلوا على الاسد الابن، ومنحوه الفرص، واطلقوا على بداية حكمه وصف «ربيع دمشق» وقالوا عنه انه درس في لندن، و «شاف بلاد برّا» وانه مثقف وفهمان، وطبيب عيون...!. فلماذا لا يعطون هيتو فرصة ان يثبت للجميع ان الشكوك والظنون التي تحوم حوله ليست في محلّها. جرّبوا الرجل، ثم احكموا. * كاتب كردي سوري