ما هو متعارف عليه بين فلاسفة الحداثة ونقاد ما بعد الحداثة أنّ الفلسفة الوجودية التي أعادت تأصيل مركزية الإنسان في الوجود لم يكن ليتثبت أركانها لولا الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار وقتل على صعيد كبير، لتغدو الوجودية العنوان الأكبر لفلسفات القرن العشرين في الدفاع عن الحرية ووجودية الإنسان. وكان المتهم في ذلك الدمار وتقييد الحرية، بالدرجة الأولى وعلى صعيد النقدي الغربي، شخصية قد بدأت ولادتها منذ ثلاثة قرون، شخصية اسمها: «الحداثة»، إضافة إلى ما يقف في بؤرة خطابها، أي العقلانية (المادية حصراً) والموضوعيّة. مناسبة هذا الكلام هو التغريبة السورية، نتيجة آلة الفتك والقتل اليومية والتهجير... إلخ، وما بدأ يلاحظ فيها من صعود لخطاب ربما لا يصح وصفه بالوجودي السوري، إلا أنه على أقل تقدير خطاب مثالي ذاتوي يريد رد الاعتبار إلى «الذات» كموضوع للحرية، وذلك في مواجهة أنانية وموضوعية الحرب الجارية في سورية. هذا ما لوحظ مثلاً من خلال ما كتبه مفكرنا الجليل الأستاذ جاد الكريم الجباعي في مقاله «دفاعاً عن الذاتية... دفاعاً عن الحرية» (الحياة، السبت 9 آذار/ مارس 2013). ربما من المهم تسجيل أنّ هذا المقال لا يختلف على الإطلاق في الخطوط العريضة مع تلك التي أراد الجباعي إيصالها في التشديد على مبدأ الحرية في مقابل الذهنية الجماعوية التي تسيطر على الخطاب السوري وغيره والتي أنتجت لنا خطاباً عدمياً، سوى بتوضيح ناحيتين: الأولى، تتعلق بالانتصار للذاتية والحرب على الموضوعية والعلمية والأداتية كما ظهر، والثانية، ربط الأنانية والنرجسية عندنا بالموضوعية، والتي لم نشتمّ، كشعب عربي، رائحتها إلى هذه اللحظة على الإطلاق. في الواقع، الحرب على الحداثة والموضوعية لم تكن قد بدأتها الوجودية، إلا أنّها استكملت الحرب التي بدأتها الأدبيات الرومانسية الأوروبية في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، ثم لتستطرد مع البنيوية وما بعدها، والتفكيك وما بعده، ومقولات انتهاء التاريخ، انتهاء العقل، الانتصار للنسبية العدمية... إلخ، والتي اختُصرت كلها في فلسفات «ما بعد الحداثة». إلا أنّ ما يجمع بين كل تلك الفلسفات على رغم الاختلاف المعرفي بينها، هو العداء للحداثة والموضوعية والسرديات الكبرى (العقلانية) والانتصار للذاتيات أو الفلسفات التي تشدّد على «المحلي» ضد «الكوني» الحداثي. وربما من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها معظم هذه الفلسفات تحميل الحداثة الأوروبية والموضوعية ما لا تحتمله في حمل أعباء حروب القرن العشرين ووزرها. وقد خاطب الفيلسوف الألماني الشهير جورغن هابرماس أولئك الذين يحاربون الموضوعية والحداثة العلمية عموماً بأنّ «الحداثة مشروع لم يكتمل» (1980) وبأنها ما زالت تعد بالحرية، لكن الحرية من البوابة العلمية الموضوعية، لا من خلال ذاتويات مثالية. وفوق ذلك، ربما من المهم علمه أن معظم الخطابات التي حاولت تقديم بدائل عن خطاب الموضوعية لم تنتج إلا النقائض التي كانت تهدد الحداثة منها: فإذا كانت الحداثة والموضوعية والخطاب الليبرالي هي التي أسست أركان الخطاب الديموقراطي، فإنّ خطابات الذاتوية هي التي أرادت الرجوع بالإنسان إلى ما قبل الحداثة. نعم، لقد كان هناك تشديد على الذات كقيمة أولى للحرية. لكن، أيّ نوع من الذات؟ إنها الذات المثالية الهاربة من واقعها، من موضوعها العقلي والمادي والهائمة في سحب المثال بعيداً من شرطها الموضوعي الذي تعيشه، إنها ذاتُ جحيمِ الأبواب الموصدة (سارتر). وبالتالي، الإشكال ربما لا يكمن في القول إنّ ثورة الحرية والكرامة «لا تنبسط في الواقع قبل رد الاعتبار للذاتية، أي للاستقلال والحرية»، بمقدار ما يكمن أساساً في أنّ الحرية، وبخاصة في البلاد الديكتاتورية، إلا بردّ الاعتبار أولاً إلى «موضوعية» الذات، كتحقق تاريخي في الوجود: النظر إلى الذات بشروطها السياسية والواقعية ومعالجتها على ضوء ما بشر به رُسُل الحداثة في أوروبا. وليس هناك بأس من جعل هذه الذات نفسها موضوعاً خارجياً للعلم، ولا يؤدي هذا إلى تشيؤ مجاني (كما يتهم) ولا إلى تخارج بين الموضوع والذات. إنهم الحداثيون الذين وضعوا الذات في المخبر العلمي، وأخرجوها من قيود وطلسمات القرون الوسطى. أما الانتصار للذاتية كشرط لطلب لحرية على حساب الموضوعية، فإنه لا يعني إلا أبواباً موصدة أخرى أمام الذات والغرق في مثاليات ذاتوية ستقيّد حرية الإنسان (الإنسان بالمعنى المادي الموضوعي). وقد لمّح كثير من النقاد إلى خطورة مثل هذه الأقوال: الانتصار للذات وتمجيدها لا يؤدي إلا إلى الانتصار ل «المحلي»، الأمر نفسه الذي ذمه الأستاذ الجباعي. لقد قالت لنا الحداثة والموضوعية أنّ الحداثة كمشرع علمي وكوني هو الخيار الأمثل أمام شعوب العالم للسير نحو الديموقراطية. النقطة الأخرى، هي ما يتعلق بربط الأستاذ الجباعي بين أنانيتنا ونرجسيتنا بالموضوعية ثم ليضيف إليها العلمية والواقيعة «لعل جذور الأنانية والنرجسية تضرب عميقاً في الميول الموصوفة بالموضوعية... ويمكن أن نضيف إليها «العلمية» و «الواقعية». في الحقيقة، لقد وضع المفكر المغاربي عبدالله العروي منذ أكثر من أربعين سنة العرب أمام خيارين: إما الحداثة وإما اللاحداثة، أي الحال التي عليها العرب. ولا يبدو أنّ معظم البلاد العربية كانت تحب سماع هذه الأصوات، فبقيت سائرة في طريق قدريّتها التي نلامس بعض نتائجها اليوم. ما يؤسف له أنّه إلى هذه اللحظة هناك مناضلون غربيون وعرب يؤكدون ضرورة ولوج العرب عصر الموضوعية والحداثة، لكن من دون جدوى. وبالتالي، ربما يغدو من الأصح القول بدلاً من ذلك الربط أنّ مسألة غياب الموضوعية والعلمية والالتصاق بمشاريع الماضي وما قبل الماضي وسيادة ثقافات قروسطية توتاليتارية عابرة للقارات والأزمان (إضافة إلى ما ذكره الأستاذ الجباعي، المركزية الذكورية والإثنية، المسماة وطنية أو قومية)... هي أمّ المصائب العربية. إذ لو كانت فعلاً الموضوعية والعلمية والواقعية قد دخلت بلادنا، فبالتأكيد لم نكن لنشهد مظاهر النرجسية والأنانية وهضم حقوق الفرد السياسية. وبالتالي، لا يغدو الأمر أنّ في سورية وغيرها قد غدت الموضوعية بلا عقل... بمقدار عدم دخول الموضوعية من أصلها. يجب ألّا نتنكر للموضوعية العلمية (الحداثية) ولصق التهم بها في بيئة مشرقية هي بالأصل غير مستعدة للخروج من إسار قيود ما قبل الحداثة والموضوعية. لقد انتقد هابرماس الحداثة من داخلها، عيوبها ونواقصها، لكنه في الوقت نفسه كان المفكر الغربي الأقوى دفاعاً عن الحداثة كمشروع كوني وعلمي موضوعي يفيد في تقدم الشعوب نحو الديموقراطية والعدالة الإنسانية. * كاتب سوري