لو حاولنا تلخيص القصص التي كتبها الروائي الأميركي دون ديليلو بين عامَي 1979 و2011 وصدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً لدى دار «أكت سود» تحت عنوان «الملاك إزميرالدا»، لما وجدنا أفضل من الجملة التي تنطق بها إحدى شخصياته: «في بداية سن المراهقة وقعتُ على كلمة استيهام. كلمة رائعة جعلتني أرغب في أن أكون كائناً استيهامياً، شخصاً يدخل ويخرج من الواقع المادّي كما يشاء. وها أنا الآن هنا كحلمٍ هشّ ومعلّق، ولكن أين البقية، الكثافة المحيطة، المادّة والشكل؟». وفعلاً، على رغم الحضور الملموس لشخصيات هذه القصص، نجدها تتشارك ميزةً رئيسة واحدة: تشكُّلها حصرياً داخل مخيّلة الراوي وتشبّث كل واحدة منها بخرافتها الخاصة التي ترتكز على حدسيات خاطئة أو تقريبية توسّع الهوة التي تفصلها عن ذاتها وعن الآخرين، وهو ما يجعل من هذه القصص كوميديات سوداء بامتياز. الرجل التآملّي في القصة الأولى التي تحمل عنوان «خلق»، نشاهد زوجاً وفياً يُضطر، لتمرير الوقت على جزيرة يحاول عبثاً مغادرتها، إلى إغراء امرأة تعاني المشكلة ذاتها. وفي كل من قصّتي «الجائعة» و «بادر ماينهوف»، نتعرّف الى رجلٍ تأمّلي يلاحق مرغماً امرأةً يتعذّر فهمها. وفي قصة «البهلوان العاجي»، نطّلع على هواجس شابة أميركية تختبر برعبٍ الهزّات المتتالية للزلزال الذي ضرب اليونان عام 1995. وفي قصة «العدّاء»، ندخل في ذهن شاب يشاهد أثناء ممارسته رياضة الجري عملية خطف طفل أمام عينَي أمّه... وإن أسقط قصصه في الفضاء، كما في قصة «لحظات بشرية من الحرب العالمية الثالثة»، أو في أحياء نيويورك البائسة، كما في قصة «الملاك إزميرالدا»، يقترح ديليلو تنويعات فريدة حول الشعور بالقلق واللاأمان المسلّط على الإنسان المعاصر عبر تبريزه شخصيات تبدو ضحية كوارث صامتة وتحاول، من خلال بحثٍ ذهاني تأويلي عن معنى لحياتها، التعايش مع حالة الضياع التي تتخبّط فيها داخل عالمٍ لا تملك فيه أية وسيلة للسيطرة على أحداثه. وعلى رغم اختلاف هذه القصص في إطارها وشخصياتها وأحداثها، ثمة نقاط مشتركة كثيرة بينها، كحالة الضيق والغثيان التي يبرع دليلو في تقطيرها داخل كل منها، والسخرية التي يعتمدها فيها كصمّامٍ وحيد، من دون أن ننسى الفضاء المغلق الذي يُسقط شخصياته فيه، كالجزيرة الفردوسية في قصة «خلق» التي تتحوّل إلى جحيمٍ يستحيل الهروب منها بسبب إلغاء الرحلات المتواصل في مطارها الوحيد، أو المحطة الفضائية التي تدور بقاطنَيها إلى ما لا نهاية حول الكرة الأرضية في قصة «لحظات بشرية من الحرب العالمية الثالثة»، أو المسار الدائري الذي يركض فيه «العدّاء» يومياً، أو السجن الذي يُشكّل إطار قصة «المطرقة والمنجل»... ولكن أبعد من المواضيع المعالجة والأحداث المروية، تكمن قيمة هذه القصص خصوصاً في اللغة التي شحذها ديليلو لها والتي لا تسعى إلى تأمين الإتصال بالقارئ بقدر ما تسعى إلى زعزعته وتعزيز ذلك الشعور بالقلق وعدم الإرتياح الذي تعانيه الشخصيات الرئيسة. جهدٌ لغوي فريد لا يشغل ديليلو فحسب بل أيضاً شخصيات -ورُواة- قصصه، ما يجعل من هذه الأخيرة قصصَ كلماتٍ أكثر منها قصص أشخاص. الكلمات السرية في قصة «لحظات بشرية من الحرب العالمية الثالثة»، يقول الراوي: «أهدف إلى تشييد بنية مبتذلة»، ثم يضيف: «أريد أن تبقى الكلمات سرّية، أن تلتصق بالعتمة كلياً». وفي قصة «الجائعة»، نقرأ: «كان متأكداً من وجود كلمة أخرى، غير صفة «قهمية»، تساعده على وصف هذه المرأة، كلمةٌ ابتُكرت كي يتوق بعض الأشخاص إلى تجسيدها، كما لو أنهم وُلدوا وكبروا فقط للتلفّع بها». وفي قصة «المطرقة والمنجل»، تسرّ لنا شخصيتها الرئيسة بأن والدها كان «يبحثُ عن تعريفٍ لغوي له (...) ويردّد بأن الناس الذين يشعرون بالحاجة إلى تعريف ينتمون إلى عالم القواميس». أما في قصة «الملاك إزميرالدا» فتقول الراهبة إدغار في نفسها متوجّهةً إلى الأطفال والمراهقين المشرّدين: «لو تمكّنتُ من تعليمكم جملة صحيحة واحدة لأنقذتُ حياتكم». وفي مكانٍ آخر، يقول الراوي حولها: «غالباً ما تخيّلت سحابة الفطر الذرّية تحت جلدها، وها هي اليوم أيضاً تحاول تعزيم الإنفجار في الوقت الذي انهار الإتحاد السوفياتي فيه بشكلٍ أبجدي ووقعت حروفه الكبيرة (URSS) كتماثيل سيريالية». كأنّ ديليلو أراد من خلال هذه القصص الإشارة إلى أن انتشار القلق الملازم لعالمنا اليوم يتم بواسطة جرثومة الكلمات والحروف، وبطريقةٍ لا نعود نعرف فيها إلى أي عالمٍ ننتمي. كما لو أنه أراد لفت انتباهنا إلى أن الكلمات لم تعد مصدر غنى للبشرية بل مصدر ضياع وحشو مُفرَط. ولعل هذا ما يفسّر الحوارات الإيجازية (elliptiques) والسيناريوات المقتضبة أو المبتورة والمناجيات الاستيهامية في هذه القصص التي تتميّز أيضاً بغياب أي حل لعُقدها، وهو ما يحوّلها إلى نوع من الإسترسال المرضي في التخيّل غايته الوحيدة الهروب من الواقع المؤلم. وما يُعزّز هذه القراءة هو قصة «دوستويفسكي عند منتصف الليل» التي نتعرّف فيها الى شابين يتباريان في إعادة تشكيل العالم انطلاقاً من أي شيء وفي ابتكار حياة الآخرين في شكلٍ خيالي، ويقول أحدهما: «كل ما نفعله هو البحث عن حياةٍ موازية». تبقى ملاحظة أخيرة وهي أن ديليلو لم يسع، في تصوير شخصيات قصصه، إلى جعلها مثيرة لأي انفعالٍ أو عاطفة. ومع ذلك، يتمكّن، بفضل وصفه الإستبطاني الناجع لها وكشفه المركَّز والعميق لسيرورة تفكيرها، من تقريبها منا ومن جعلنا نتماثل بسهولة بها ونتبنّى مخاوفها وتساؤلاتها.