لا يجد زائر مهرجان «الدوخلة» نشازاً وهو يسمع الموال البحري الخليجي، يتردد من فم «نهّام» في هذا الركن، أو مقام عراقي هناك بصوت ناظم الغزالي. إذ تمكن المهرجان في نسخته ال10 المقامة برعاية «الحياة»، من المزاوجة بين الفنين، على رغم التباين المكاني والفني بينهما، ليستمتع بهما زوار المهرجان، الذين كانوا بالألوف في ليلته الشعبية الأولى. أما الأطفال فكانوا يترجلون من مركبات ذويهم مسرعين ليتخطوا الكبار، وفي يد كل منهم «دوخلة» اشتراها قبل أيام، واعتنى بها ليلقيها في البحر، بعضهم يفعل ذلك للمرة الأولى في حياته، وبعضهم يبدو وجهه مألوفاً على مدار الأعوام ال10 الماضية، التي أقيم فيها المهرجان. حتى أصبحت طقساً من طقوسهم السنوية التي يختمون بها العام الهجري، ويسألون عن توقيتها. أطفال من مختلف الأعمار، لم يبدأ مهرجان الدوخلة إلا يوم أمس حين رموا «دواخلهم» محملة بالأمنيات. ولا يرتبط رمي «الدواخل» بشراء «الدوخلة»، وإنما ارتبط بنوعية ونمط اللبس، الذي لا بد أن يكون شعبياً، فللبنات ثوب الزري والبخنق، وللأولاد الإزار السروال والطاقية. فأصبح هذا اللبس من ضمن قائمة ملابس العيد. وبان الاستغراب على ملامح الأهالي من أطفالهم الذين «أهملوا جهاز «الآيباد»، وقطعت «الدوخلة» إدمانهم له وتعلقهم به، فكان طلب الأهالي بترك «الآيباد» في المنزل متفقاً عليه. ورافق الأطفال في رمي الدواخل فرقة «خيالة». وحضر الافتتاح الشعبي جمهور من محافظة القطيف وخارجها، ليقف الجميع صفاً واحداً أمام البحر يلوحون بدواخلهم، وهم يرددون «دوخلتي حجي بي إلين يجي حبيبي، حبيبي راح مكة ومكة المعمورة أم السلاسل والذهب والنورة». تستقبلهم أمواج البحر لتتسلم ودائعهم، ليعودوا إليها في العام المقبل وهم أكبر بعام، ويحملون أمنيات أكثر، وأحلاماً كبرت معهم عاماً آخر. إلا أن المهرجان لم يقتصر على التراث الخليجي، المتمثل في «الدوخلة» والأزياء الشعبية، بل استحضر الفن العراقي متمثلاً ب«المقامات»، من خلال أمسية ثقافية هي الأولى هذا العام، استقطبت مهتمين بالشأن الثقافي والموسيقي على حد سواء. وكان محور الطرح: «آثار المقامات العراقية في الموسيقى المحلية». واكتظت مقاعد الخيمة الثقافية بالحضور، ليبدأ بعدها حسين الجنبي إدارة الحوار، مع المهتم بالموسيقى والصوتيات فاضل التركي. بدأ الجنبي الأمسية متحدثاً عن تاريخ الموسيقى ونشأتها قبل الإسلام، مستشهداً بابن ربيعة في القرن الخامس الميلادي، وابن عبده في القرن السادس. وذكر أن «الفلاسفة العرب في العصر الإسلامي اهتموا بالموسيقى، مثل الكندي، الذي أدخل كلمة «موسيقى» إلى اللغة العربية، ثم انتقلت إلى الفارسية والتركية، وكذلك شيخ الفلاسفة الفارابي، وأبوبكر الرازي الذي كان مولعاً بالموسيقى، وكان يعزف العود في أحد مستشفيات مدينة الري، وكان من الناصحين بالعلاج بها». وتحدث المهتم بالموسيقى فاضل التركي عن شدة تأثر النشاط الموسيقي المحلي بالمقام العراقي والغنائي الريفي العراقي، ممثلاً بذلك «أسلوب قراءة الموال في دخول اللهجة والمقام العراقي فيها، وبعض أهازيج حفلات الزفاف في القطيف والأحساء ومدن خليجية أخرى، التي تقمصت شيئاً من هذه المقامات». ووصف المقام العراقي بأنه «جنس تقليدي، وهو شكل من أشكال الغناء التقليدي في العراق يمارس في المدن، مثل بغداد والموصل، وله صيت واسع يتغير بحسب المنطقة التي يمارس فيها، إذ يأخذ شكلاً مكوناً من خمسة أجزاء أو ستة، يبدأ فيه مغن قدير على غناء شيء من مقام معين، داخل المقام العراقي، يبدأ بالتحرير، ثم يدخل إلى أوصال وقطع، ثم بعد ذلك ينزل إلى القرار، ويعلو إلى الجواب ويختم بنهاية، وهو ما يحتاج إلى قدرات صوتية خاصة، ربما لا تتوافر عند الكثيرين ممن يحاولون الدخول في أداء المقام العراقي، وتحديداً الحزين منه». وشرح التركي سبب دخول المقام العراق إلى الموسيقى المحلية بقوله: «كان للزيارات والسفر دور في نقل ذلك الفن، إضافة إلى الاستماع إلى المنشدين العراقيين، ولو نظرنا إلى نبتة الموسيقى في منطقتنا قبل دخول المقام العراقي، لرأينا أنها نبتة بحرية صرفة». وعرض صوراً لمغنّي المقام مثل: هاشم الرجب وابنيه صهيب وباهر الرجب، ومحمد القبانجي، وحسن خيوكة، وفلفل كورجي. كما قدم مقاطع توضح المقامات مثل: المقام اللامي، والبياتي، ودشت لناظم الغزالي، وزهور دشت. بدوره، أوضح المسؤول عن الخيمة الثقافية حسين الجفال، أن هناك «جدولة نعمل بها في الخيمة الثقافية، لنتدرج إلى كل الفنون التي تجذب الجمهور وترضي ذائقته، من الصوتيات إلى الرواية والشعر والموسيقى». المهرجان يعيد المُسنين إلى زمان الصبا اعتبر الزوار «الدوخلة» في نسخته ال10 «أنموذجاً للمهرجان التراثي السياحي الترفيهي الثقافي، الذي يحاكي ميول الأجيال ويحمي التراث من الانقراض». ومن اللافت للانتباه أن «كبار السن حرصوا على الحضور، على رغم تكبدهم عناء ذلك، فأحدهم يتذكر جلسته على السيف (البحر)، وآخر يستحضر مواويل الغوص وعودة السفن، وتلك تستحضر وقوفها في انتظار زوج وربما أخ أو أب». وذكر أنه «هكذا كنا، ولم تغب تلك الصور من ذاكرتنا، كان زمناً جميلاً على رغم عدم توافر وسائل وسبل الراحة». وقالت الثمانينية أم عبدالرزاق: «كنا نقف على السيف نصطاد السمك، وكانت الأسماك كثيرة ومتوافرة، نراها تلاعب مياه البحر». وأخرى تذكرت اصطيادها دود البحر مع صديقاتها، لافتة إلى أن «دودة البحر كانت قريبة من الساحل، وكنا نلعب بها، ونتنافس في التقاط أكبر دودة. وكان البحر حياتنا ومتنفسنا. وكأن الدوخلة تعيدنا إلى ذلك الزمن. وهرع كوادر من «الدوخلة» إلى الساحل ل«الحفاظ على سلامة الأطفال، ومتابعة إنهاء مراسيم رمي الدواخل، كما توجد سيارات للإسعاف، وفرق من الدفاع المدني للتدخّل في حال حدوث أي طارئ».