بات واضحاً من خلال نتائج جولة وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري أن إدارة الرئيس باراك أوباما لن تبدل في السياسة التي اتبعتها حيال سورية في السنتين الماضيتين. بل ثبتت خيار عدم التدخل العسكري وهي تطوي صفحة الحروب التي شنّها الرئيس جورج بوش الإبن. فالديبلوماسية التي اعتمدتها في مواجهة الملف النووي الإيراني تعتمدها أسلوباً لتسوية الأزمة السورية. وترجمت عملياً نهج إشراك القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في السعي إلى الحلول والتسويات. فضلت وتفضل الوقوف في الصفوف الخلفية ودفع الشركاء إلى أداء دور كانت القوات الأميركية إلى سنوات خلت هي من يتنطح لتأديته. لذلك، لا تزال واشنطن على موقفها الذي يمنح موسكو الفرصة بعد الأخرى لإيجاد تسوية أو محاولة جر الأطراف المتصارعين في سورية إلى طاولة الحوار، بصرف النظر عن تكرار تمسكها بوجوب رحيل الرئيس بشار الأسد، وبصرف النظر عن التعارض في تفسير «بيان جنيف» الداعي إلى قيام مرحلة انتقالية تديرها حكومة تتمتع بصلاحيات كاملة. بالطبع، لا يمكن الرئيس أوباما أن يقفز فوق «مبادئ» تبناها أسلافه للحفاظ على مصالح الولاياتالمتحدة من جهة، وترسيخ الأمن والاستقرار العالميين... أي لا يمكنه الرجوع إلى «مبدأ الرئيس جيمس مونرو» الذي اعتمد عام 1823 سياسة انكفاء بلاده إلى الداخل بعيداً من السياسة الدولية. الانعزال الذي كان يصح في حينه وعمّر حتى الحرب العالمية الثانية لم يعد يصلح. تبدل العالم وتبدلت المفاهيم السياسية والاقتصادية وطبيعة العلاقات الدولية التي لا يمكن أن تسمح بمثل هذا الانعزال. كل شيء «تعولم». ولا يمكن أميركا أن تتخلى عن دورها الريادي. وخير دليل على ذلك نقل أولويات استراتيجيتها إلى المحيط الهادئ لمواجهة الصين. في ضوء هذا الموقف، لا يعني أن الدعم الإيراني والروسي لنظام الأسد هو ما يؤجل التغيير الجذري المطلوب. بل إن الصمت الأميركي خصوصاً والأوروبي عموماً هو ما يطيل عمر النظام ويعمّق معاناة الشعب السوري. وقد أفادت واشنطن حتى الآن من الصراع المفتوح في سورية على أكثر من صعيد. فهو شكّل ويشكّل من جهة انهاكاً واستنزافاً متواصلين للجمهورية الإسلامية، سياسياً وعسكرياً وحتى مالياً، وإشغالاً مقلقاً لحلفائها في بيروت وبغداد. ولم يكن من باب المصادفة أن يعبّر كل من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصر الله، في وقت واحد، عن خوفهما من ارتفاع وتيرة الشحن المذهبي الممتد من شاطئ المتوسط إلى ضفاف دجلة والفرات، وأن يحذرا من محاولات جر البلدين إلى مستنقع الحرب الأهلية التي لا يعوزها سوى خطأ أو شرارة غير محسوبة النتائج. بعد هذا، كيف يمكن أن تستكين طهران وهي تنظر إلى غرقها في المستنقع السوري، وإلى تآكل رصيد حكومة المالكي الذي يتعاظم صوت خصومه، على طول المحافظات السنية، مطالبين بإسقاط حكومته و «نظامه» وخروج إيران! لا يمكن أن تهنأ وهي تخشى أن يجر «حزب الله» إلى مواجهة أو صدام داخلي يذهب بقوته وما بقي من رصيده «قوة مقاومة» فيُشطب نهائياً من معادلة الصراع مع إسرائيل. بالطبع، ليس مقنعاً ما قاله زعيم «دولة القانون» عن منع تهريب السلاح إلى أي من طرفي الحرب في سورية، لأنه يعرف ويعرف كثيرون ما يجري بين حدود البلدين. ومعروف ما آلت إليه سياسة «النأي بالنفس» التي ترفعها حكومة نجيب ميقاتي. فتدفق الرجال والسلاح عبر الحدود على قدم وساق. اكتفى اللبنانيون المتناحرون والعراقيون المتناحرون حتى الآن بالاقتتال خارج حدودهم تعويضاً عن اشتباكاتهم الداخلية. لكن هذا الاقتتال يشبه الوقوف على حافة الهاوية. ولعل الخوف الأكبر لحلفاء إيران هو التغيير الآتي إلى دمشق مهما طالت معاناة السوريين... لأن مثل هذا التغيير سيستدعي تغييراً في قواعد اللعبة السياسية في كل من بيروت وبغداد، استناداً إلى الحجم الديموغرافي للكتلة السنية التي تسعى إلى استعادة ما تسميه «شرعيتها» في الحكم كأكثرية. ومثل هذا التغيير المنتظر هو ما يعجل في حراك أهل السنّة في دول الجوار ضد ما يعتبرونه حيفاً أو ظلماً يلحق بهم جرّاء تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة كلها. وهو نفسه ما يدفع القيادة الإيرانية إلى محاولة التعويض في ساحات أخرى على امتداد الإقليم وحتى خارجه، من اليمن إلى بعض الساحات الأفريقية، مروراً بتحريك طموحات مكبوتة لكتل شيعية وازنة في بعض دول مجلس التعاون الخليجي. ويشكل الصراع المفتوح في سورية، من جهة أخرى، ساحة للمجموعات الدينية المتطرفة بديلاً من ساحات غربية وغير غربية. ولا يضير واشنطن أن تراقب المتطرفين يخوضون «جهادهم» في الساحة السورية التي طالما شكلت منطلقاً لقتال القوات الأميركية في العراق منذ الغزو الأميركي لهذا البلد. فوزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول لا ينسى ما أجابه به الرئيس الأسد عندما طلب منه وقف تدفق المقاتلين عبر الحدود إلى العراق. أجابه بأن ثمة بضعة آلاف منهم، ويريحه أن يتخلص منهم الأميركيون بدل أن يواجههم هو بجيشه. ولا حاجة إلى التذكير بما شكا منه طويلاً العراقيون، وعلى رأسهم المالكي نفسه، وهو إشراف دمشق على انتقال «الجهاديين» إلى جارها الشرقي، إشرافاً يشبه إلى حد ما «قاعدة بيشاور» أيام «الجهاد» في أفغانستان. واليوم، لا يحتاج المسؤولون السوريون وبعثتهم في الأممالمتحدة إلى كبير عناء لكشف أو نشر أسماء هذه «القاعدة» وبياناتها. لكن فترة الصمت الأميركية طالت أكثر مما يجب، وباتت تهدد مصالح الولاياتالمتحدة في طول المنطقة وعرضها. ذلك أن الانهيار الكامل في سورية لن يشكل خسارة كاملة لروسياوإيران المراهنتين على بقاء الأسد فحسب، بل بداية تهدد بزعزعة استقرار المنطقة بأكملها. فلبنان والعراق يقفان على حافة الحرب المذهبية. ولن يسلم الأردن وتركيا وإسرائيل من انتشار «أمراء المجاهدين» على حدودهم مع سورية. كما أن احتمال تفتيت سورية كما يروّج بعضهم، أو كما يعمل بعض أهل النظام خياراً أخيراً، سيفتح الباب واسعاً أمام إعادة النظر في خريطة المنطقة كلها. وهو أمر قد لا ترغب فيه القوى الكبرى، أو لا يناسب مصالحها التقليدية، كما لا ترغب فيه القوى الإقليمية الفاعلة، تركية أو عربية. لذلك، لا يمكن تجاهل التطورات الأخيرة، من نتائج مؤتمر «أصدقاء سورية» في روما وقبله قرار الاتحاد الأوروبي إمداد المعارضة السورية بعربات مدرعة دفاعية، وقبله ما تردد عن وصول أسلحة إلى المقاتلين من كرواتيا وغيرها بعلم «الأصدقاء» وتمويل المتمولين. ثم جولة الوزير جون كيري ولقاء الرئيسين الفرنسي والروسي فرنسوا هولاند وفلاديمير بوتين، ثم المهاتفة بين الأخير ونظيره الأميركي. صحيح أن كل هذه التطورات والقرارات لم تعجب «ائتلاف المعارضة»، لكنها خطوات يمكن وصفها بأنها بداية «التدخل الناعم» الذي قد يجر إلى تدخل تدريجي أوسع إذا لم يقتنع النظام وحلفاؤه بوجوب السير الجدي في تسوية توفر على الجميع خسارة مدوّية، وتوفر على سورية مصيراً أسود. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تقترب من التفاهم مع روسيا، وهو أمر حتمي بين البلدين نظراً إلى تشابك مصالحهما وتقاطعها في أكثر من مكان، فإن السؤال اليوم هو: هل باتت إيران مستعدة فعلاً للتفاهم مع المجموعة الدولية على جملة من القضايا المرتبطة بها وبدورها وملفها النووي؟ في ظل المتغيرات الحالية، انقلب ميزان القوى التقليدي الذي ساد في السنوات الأخيرة... لم يعد لمصلحة الجمهورية الإسلامية التي سرّها انسحاب الأميركيين من العراق وتخبطهم في أفغانستان وعجزهم عن تحريك التسوية في فلسطين. تواجه الجمهورية اليوم تهديداً في أكثر من جبهة. تكاد تفقد سيطرتها على اللعبة السياسية والأمنية في لبنان والعراق، ولم تنجح محاولاتها في شبه الجزيرة العربية. وإذا قيّض للرئيس أوباما في زيارته المقبلة الى المنطقة أن يمهد لإعادة تحريك مساعي التسوية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، فقد يزيد في إضعاف دورها في الورقة الفلسطينية، بعدما خرجت حركة «حماس» من عباءتها. بالطبع، لن يتكرس الانقلاب في ميزان القوى إذا استعجلت إيران السعي إلى قنبلتها النووية. لكنها في اجتماع كازاخستان مع مجموعة الخمسة زائد واحد طرحت البحث في كل الملفات التي تعنيها من السوري إلى النووي وغيرهما، مع ما يعني ذلك من استعداد للمقايضة. لكن هذا الأمر لا يتعلق برغبتها وحدها وبشروطها هي. إذ كانت للدول الست مقاربة أخرى تقوم على تخفيف العقوبات في مقابل وقف التخصيب ومراقبة دقيقة للمنشآت. والسؤال مع اقتراب نهاية «حرب السنتين» في سورية: هل يحتمل هذا البلد ومعه دول الجوار تكرار تجربة لبنان بتجديد الحرب بعد مقدمة «السنتين»، أم أن إدارة أوباما باتت قادرة على فرض تسوية - على وقع «التدخل الناعم» و «ديبلوماسية الشراكة» مع موسكو – تتيح لكل من روسياوإيران بعض النفوذ عبر دور وموقع للأقلية التي لا تزال تحيط بنظام الأسد؟ المهم ألا يطول انتظار حلحلة بعض العقد أو انتظار بعض الاستحقاقات هنا وهناك، لئلا يحين موعد التدخل الواسع الحاسم... أو في أسوأ الأحوال موعد الفتنة الكبرى!