«لو أنّ لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف الإنسان إلّا التراب». حديث صحيح. تحت جنح ليلٍ يُسدِلُ علينا ظلمَه وظلامَه محتمياً بما يُدعى إليه اللبنانيون صُبْحَ مساء من ضرورة ضبط النفس بذريعة أنّ تفلّتَهم المواطني يُهدّد السلم الأهليَّ بأوخم العواقب، وفي ظل إحباط شبه قدريّ يشلّ معظمَ المرجعيات الأخلاقية والجمالية التي تَوهّم البعضُ منا أنها الملاك الحارس لما تبقّى من معالم استعصاء لبناني، يستعدّ الجشعُ العقاريُّ، بعد أشهر قد تطول أو تقصر، على اقتلاع مبنًى بيروتيّ آخر له في القلوبِ منازل. بدمعة أو دمعتين لا أكثر تستعد بناية الأونيون - الاتّحاد الوطني (نعم، يا لسخرية الأسماء!)، الحاميةُ زقاق البلاط والصنائع والقنطاري، لأن تُرثى بعدما أصابتها عين العقاريين الذين لا يرون إلى بيروت إلا مشاريعَ عقاريةً تقلب الترابَ ذهباً على نية مستثمرين أقلَّ ما يُقال فيهم أنّهم مُصابون بعمى المدن. لعل العقاريّ الذي يُصوّب على بناية الأونيون، والذي لا يُسامح النحّات الفرنسيّ دوريه على ما نَحَتَه من غاداتٍ، معتنقات غزلاناً، يَحْرُسْن درج الأونيون، والذي، على الأرجح، لا يرى وجهاً للمدخل الفسيح الذي يستقبل زوّار المبنى - ولكن، الذي يعرف بالضبط كم مِنْ محلّ تجاري يُمكن أن يحل محلّ هذا المدخل حتى من قبل أن تبدأ أعمال الهدم وإعادة الإعمار - لعلّ هذا العقاريّ يستخفّ، اليوم، باللعنة التي هو مقبل لأن يُسدّدها كطعنة نجلاءَ إلى هذا الحيّ من أحياء بيروت الذي لا نحتاج إلى الاستفاضة في بيان رمزيته التليدة والحادثة. وفق العقاري ذاك أن يَعْلَمَ أن اللعنةَ صنو العينِ والسّن... عَيْن بعينٍ وسنّ بسن ولعنة بلعنة ولا يَمْلأ جوفَ الإنسان إلّا التراب فليعتبر إن كان من ذوي الألباب... يبقى أن نتساءل «ما العمل؟» سوى الحداد المُبكر والبكاء الاستباقي على الأطلال؟ منذ أشهر بوشرت، قبالة الأونيون، في الموضع السابق لكلية الحقوق، أعمال الحفر لبناء المكتبة الوطنية الموعودة. ببساطة، لماذا لا يبادر المسؤولون إلى استجداء الملايين الضرورية لإنقاذ بناية الأونيون، (لا عيب في الاستجداء لما فيه الخير العام)، على أن يُوقَفَ هذا الصّرحُ، المنيفُ والعريقُ بلا مبالغة، على أن يُوقَفَ، منذ الآن، كجناح من أجنحة المكتبة الوطنية، مخصصٍ، مثلاً، ل «العمارة في لبنان» ومعمّدٍ باسم أنطون ثابت، المعمار الذي هندسها كما سواها من المباني الأَعلام - السان جورج مثلاً - في بيروت ودمشق. «عقاريٌّ»، على معنى الشتيمة، من يُطلق جرافاته لهدم بناية الأونيون، وجاهلٌ جهلاً مركّباً مَنْ يتخيل أن المكتبة الوطنية مرفقٌ يتّسع له مبنى واحد، مهما وسع، ولمَنْ قد يُخالف على ما نقول أنْ يُراجع ما انتهت إليه مكتبات وطنية عالمية من تمدّد خارج مبانيها وأسوارها. * روائيّة وناشرة