«مثلُها مثل العلم، فهي أيضاً تُمثّل الوطن الذي يبقى ناقصاً من دونها»... «هي الكنز الذي يختزن جواهر نفيسة لتمنح الوطن ثراءه وقيمته وقوته». إلى هذين الرأيين يُضاف رأي ثالث:»هي كالهوية. بل إنها الهوية التي يظلّ المرء من دونها ضائعاً. فلا أنت تعرف نفسك ولا الآخرون يعترفون بك». بهذه التشابيه المعبرّة يمكن تلخيص آراء بعض المثقفين الذين عرفوا معنى المكتبة الوطنية وعايشوها قبيل احتراقها في نيران الحرب الأهلية اللبنانية. أساتذة، أكاديميون، صحافيون، مفكرّون، جميعهم مُستغرب كيفية الحياة في وطن لا مكتبة وطنية فيه. وأكثر من ذلك، كيفية قبول الشعب بدولة تضع إنشاء مكتبة وطنية في ذيل همومها وشؤونها. أمّا الشباب، ممّن وُلدوا بعد الحرب الأهلية، فلا تزال رؤيتهم إلى مفهوم «المكتبة الوطنية» غير واضحة. بعضهم يعتقد أنّ وجود مكتبة وطنية يُساعدهم كشباب وطلاّب أكثر من أي فئة أخرى، إلاّ أنّ الدولة غير مهتمة بهم وبالتالي هي ليست مُهتمة بمتطلباتهم. وبعض آخر يرى أنّ تراثنا الذي تراكم على مدى حضارات هو عرضة للشتات في حال الاستمرار بتهميش دور المكتبة الوطنية والتأجيل في إعادة إنشائها. وفي المقابل ثمّة عيّنة من الشباب الذين لا يعرفون ماهية المكتبة الوطنية وحقيقة الفرق بينها وبين المكتبات العامّة. وليد إبن السابعة عشرة من عمره يقول: «لا أقصد المكتبات أبداً، ولا أهتم لوجودها لأنّني أعيش وسط غابة من المكتبات الرقمية والإلكترونية التي تعطيني المعلومة بسرعة أكبر وبصعوبة أقل». وتالا، تلميذة في إحدى مدارس بيروت الرسمية، متحمسة لوجود مكتبة وطنية في بلدها تُساعدها في إنجاز أبحاثها المدرسية. أمّا سارة، تلميذة في مدرسة فرنكوفونية، فتقول: «أحبّ الأوقات التي أقضيها في مكتبة المدرسة وفي المكتبة العامة التابعة للمركز الثقافي الفرنسي. ولا أعرف شيئاً عن المكتبة الوطنية». ولكن صلاح، طالب في الجامعة الأميركية في بيروت، يعتبر أنّ مكتبة جامعته هي الأهمّ في لبنان ووجودها يُغنيه عن أي مكتبة أخرى، مع أنّه يعتقد أنّ من الضرورة إنشاء مكتبة وطنية لحفظ الإرث الثقافي والفكري في لبنان. باسل، الطالب في الجامعة اللبنانية، يعتب على الدولة اللبنانية التي لا تهتم بتاريخها وإرثها وثقافتها. ويقول: «الحرب الأهلية والأوضاع الأمنية لم تعد حجة مُقنعة. فالدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية أعادت إعمار مدنها كاملة بعد أربع أو خمس سنوات، أمّا لبنان فلم يعرف كيف يُعيد بناء مكتبته الوطنية بعد مضي 22 سنة على انتهاء الحرب». ماهي المكتبة الوطنية ؟ المكتبات الوطنية لا تخصّ فئة من المثقفين والباحثين أو النخبة إذا صحّ التعبير، بل هي صمّام الأمان لتاريخ ولحضارة ووطن. إنها المكتبة الوحيدة القادرة على حفظ التراث الوطني. ماذا نعني بالتراث الفكري الوطني؟ «هو كلّ ما أنتجه وكتبه لبنانيون أو كُتب عنهم باللغة العربية وباللغات الأجنبية الأخرى. علماً أنّ النتاج الفكري الاغترابي أساسي جداً انطلاقاً من أنّ عدد اللبنانيين خارج لبنان يفوق أضعاف عددهم داخله، ما يحثّ المكتبة الوطنية على الاهتمام بإرث أبنائها ممّن هم في الخارج كما في الداخل»، تُجيب مديرة مشروع إعادة تأهيل المكتبة الوطنية السابقة ندى عيتاني. ثمّ تُضيف: «نحن نتأثّر في لبنان بالنظرة الفرنسية إلى طبيعة المكتبة الوطنية التي تتجلّى كالمكتبة الأم بالنسبة إلى المكتبات العامّة. وبالفعل استطعنا عبر مشروع إعادة تأهيل المكتبة الوطنية العمل على تنمية قطاع المكتبات العامة وتطوير مجموعاتها، وهكذا زاد ضعف عددها في لبنان بحيث وصلت إلى 126 مكتبة عامة بعدما كانت تقتصر على 32 فقط». ومن مهمات المكتبة الوطنية أيضاً تأتي ضرورة تلبية حاجات المواطنين العلمية والثقافية عبر اقتناء المنشورات المختلفة التي تتوافق واتجاهات الانفتاح في الثقافة اللبنانية على مكوناتها كافة، وعلى ميادين الإنتاج الفكري المختلفة فيها. ومن وظائف المكتبة معالجة المجموعات المكتبية عبر خطوات كثيرة منها وضع المعايير البيبليوغرافية، فضلاً عن تطوير قطاع المعلومات إلى جانب المكتبات التي يفترض العمل على توسيع الخدمات فيها وتنشيطها والعمل على إنشاء شبكة وطنية للمكتبات ومراكز المعلومات اللبنانية ودعم مجال حفظ المجموعات المكتبية والرقمية وترميمها وتطوير هذا المجال والريادة فيه. وقبل هذا كلّه تفعيل القطاع الثقافي في لبنان، وهو القطاع الأكثر تهميشاً في ظلّ وجود وزارة ثقافة لا موازنة فيها ولا قوّة. كيف يُمكن المكتبة الوطنية أن تُنشّط هذا القطاع الغارق في غيبوبة شبه دائمة؟ «المكتبة الوطنية هي حجر الزاوية في مجال الثقافة. ومع إنشاء المكتبة، يتغيّر التفاعل الاجتماعي أيضاً لأنّ مفهوم المكتبة الوطنية يجمع اللبنانيين المنقسمين في ما بينهم على تاريخ واحد وفكر واحد وإرث واحد. وإذا أردنا أن نتكلّم عن «مواطنية» فلا بدّ من الحديث أولاً عن تفاعل ثقافي وطني لجعل الهوية اللبنانية أكثر قوّة وتأثيراً. والوطنية تبدأ من فكرة «أنا لبناني» إذاً أنا أملك ما أستند إليه. والمكتبة الوطنية سوف تكون هي أوّل وأهمّ ما يجمع اللبنانيين خصوصاً أننا بلد قائم على الهبات، ما يجعل ثقافتنا الحالية مشكوكاً فيها. إلاّ أن المكتبة الوطنية لا بدّ من أن تُنقّي الدم الوطني اللبناني الثقافي». هكذا أجابت عيتاني عن هذا السؤال. إلاّ أنه يتوجب علينا في هذا المجال البحث في مصير هذه المكتبة التي تأخرّت في خروجها من تحت الركام. أي مصير ؟ المكتبة الوطنية التي أسّسها عام 1921 الفيكونت فيليب دي طرّازي في دارته الخاصة ومن مجموعته الشخصية التي كانت تحوي عشرين ألف وثيقة ومطبوعة وثلاثة آلاف مخطوطة بلغات عديدة هي التي شكلّت نواة المكتبة الوطنية اللبنانية. وكان دي طرازي يسعى دائماً إلى الحصول على أوّل عدد من أي دورية، إضافة إلى لوحات مفكرين لبنانيين وعرب من عصر النهضة. وقد حُفظت هذه المجموعة الثمينة في دار المحفوظات وستُعرض في المكتبة الوطنية اللبنانية التي من المفترض أن يُعاد افتتاحها آخر عام 2014. المكتبة الوطنية ترقد اليوم في المرفأ. أمّا المبنى الجديد أو المستقبلي للمكتبة الوطنية فهو كليّة الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية (سابقاً) في منطقة «الصنايع». « اختيار هذا المبنى ليس شخصياً، بل الدولة هي التي اقترحت ضرورة إيجاد مبنى مُلائم في مدينة بيروت. والمعروف أنّ موقع المكتبة الوطنية كان في مجلس النوّاب إلاّ أنّه، وبعد احتراقها في السبعينات نتيجة الحرب، اتُفّق على أنّ هذا المكان لم يعد مناسباً كي يكون مكتبة وطنية. ومن بين المباني التي رُشّحت كان مبنى كليّة الحقوق في الصنايع، ثمّ وقع الاختيار عليه عام 1999 نظراً إلى موقعه الاستراتيجي في قلب مدينة بيروت، بالإضافة إلى قيمته المعمارية والتاريخية والتراثية كونه يعود إلى العهد العثماني ويتميّز بهندسة رائعة ومساحة واسعة تُمكنّه من احتضان مكتبة بحجم المكتبة الوطنية اللبنانية»، تقول ندى عيتاني. والجدير ذكره أنّ الخطة المعمارية وُضعت خلال فترة إعادة تأهيل المكتبة، من قبل المهندسين والاختصاصيين في عمل المكتبات. وخلال تلك الفترة الواقعة بين عامي 2004 و2005 زار لبنان عدد كبير من المتخصصين من أكثر من مكتبة عالمية وعربية مثل مديرة المكتبة الوطنية الكندية وممثلون عن المكتبات الوطنية في السعودية والكويت والإسكندرية وبريطانيا وفرنسا. علاوة على استقدام خبراء أجانب مستقلين لتدريب الفريق اللبناني. المكتبة الوطنية تدخل اليوم في حيّز التنفيذ من خلال ترميم المبنى وتحسينه، وتقوم هذه الخطوة على الهبة التي قُدّمت من دولة قطر بقيمة 25 مليون دولار سُلّمت إلى الدولة اللبنانية عام 2011 بدلاً من 2006 بسبب الظروف الأمنية التي طرأت على لبنان خلال تلك الفترة، بما فيها الاعتداء الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006. واشترطت قطر على استثمار هذه الهبة في مجال «الإعمار» وليس من أجل أي عمل آخر. أمّا شركة «إيرغا غروب» الهندسية فهي التي تتولّى العمل على ترميم المبنى وتجهيزه وبناء المساحات الجديدة ليُدشّن في نهاية عام 2014. ويبقى السؤال: هل سيطول مجدداً حلم المكتبة الوطنية أم سيغدو حقيقة؟