في أحد مقاهي ستارباكس، في مدينة فينا المجاورة للعاصمة واشنطن، انشغل رجل خمسيني بقراءة أخبار مدينة شيكاغو على مسامع أمه التي تبدو في الثمانينات. وكانت العجوز تجبر ابنها على التوقف عن قراءة المجلة التي تحتوي أخبار مسقط رأسها، ببكائها. تتكرر هذه الصورة في مدن أميركية، حيث يخصص الابن أو الابنة مساء الأحد من كل أسبوع لزيارة والدته المسنة، واصطحابها إلى أحد مراكز التسوق أو المطاعم. وتجبر طبيعة الحياة الضاغطة في مدن أميركية كبرى الأبناء على عدم الالتقاء بأمهاتهم المسنات، إلاّ في الإجازات. وفي الغالب، تكون الأم التي يحرص الإبن على لقائها مرة في الأسبوع أرملة ومسنة، تجاوزت السبعين بكثير، أي أنها لا تستطيع قضاء كثير من حاجاتها بنفسها. ووفقاً للمركز القومي الأميركي لإحصاءات الصحة، فإن عدد المسنين الأميركيين زاد 80 في المئة خلال العشرين سنة الماضية، إذ بلغ عدد من تجاوزوا 65 سنة 37 مليون شخص، ويشكلون نحو 12 في المئة من السكان. ويتوقع، نتيجة لتحسّن مستوى الرعاية الصحية، أن يتضاعف عدد المسنين في الولاياتالمتحدة، في 2030 إلى نحو 71,5 مليون شخص. وتقول كاثي (78 سنة): «أقضي غالبية أيام الأسبوع في منزل ولا أغادره إلا لحاجة، أعيش هناك وحيدة بعد وفاة زوجي قبل سنوات». لديها ابنة لم تلتق بها منذ عامين، «إذ تعيش في أقصى الشمال الغربي، في ولاية واشنطن». وتتابع: « أحياناً نادرة، ألتقي مع صديقاتي في منزلي، وانتظر زيارة ابني الذي يعيش في واشنطن، كل مساء أحد، فيصطحبني معه إلى مطعم مجاور أو مقهى، لنقضي فيه ساعتين أو أقل، وأعود مرة أخرى إلى منزلي». لكن كاثي تؤكد أن ابنها يتفقد أحوالها باستمرار عبر الهاتف وكذلك ابنتها. وترى عدم زيارة ولديها لها باستمرار «أمراً عادياً، فابنتي تقيم في ولاية تبعد عن مدينتي أكثر من 8 ساعات بالطائرة، وابني يعمل في وظيفتين، وبالكاد يجد الوقت الذي ينام فيه». وعمّا إذا كانت تخطط للانتقال إلى دار مسنين، تقول: «هذا أمر لم أفكر فيه إطلاقاً، فأنا مرتاحة في منزلي، وترعى شؤوني خادمة تأتي إلى البيت ثلاث ساعات يومياً». لكن، وخلافاً لكاثي، تستغل سارا (84 سنة) الإجازات لزيارة ابنها وابنتها، فالأول يقيم في بوسطن (شمال)، والإبنة في مدينة ممفيس في ولاية تينيسي (جنوب)، بينما هي تسكن في فلوريدا. وتقول سارا، التي يوحي مظهرها ونشاطها بأنها أصغر من عمرها بكثير: «قضيت نحو ثلاثة أسابيع هذا الصيف عند ابنتي التي تبلغ 58 سنة. أعيش وحيدة منذ وفاة زوجي قبل 12 سنة. حاول ابني (64 سنة) أن يقنعني بالانتقال إلى منزل قريب منه في بوسطن، ولكنني رفضت». وتوضح: «قبل وفاة زوجي كنت لا أقرأ كثيراً، الآن وبعد هذه السنوات، أظن أنني أعرف تاريخ كثير من الشعوب، خصوصاً الشرقيين منهم». ولم تنف أنها تشعر بالوحدة كثيراً، لكنها تحاول أن تمضي وقتها بين النادي الصحي، والقراءة، وتبادل الزيارات مع جاراتها. وعلى رغم أن جورج (44 سنة)، يغيب أحياناً أكثر من ثلاثة أشهر عن والدته التي تقيم في مدينة تبعد عن واشنطن ساعتين بالسيارة، يؤكد أنه يشتاق إلى رؤيتها باستمرار. ويذكر أنه منذ أن تزوج انتقل إلى واشنطن، «حيث أعمل معلماً في مدارس ثانوية. معلوم أن هذه المهنة، تستدعي أن انقل عملي معي أحياناً إلى المنزل، حيث استقبل الفروض التي يؤديها الطلاب عبر البريد الإلكتروني، وأضع أسئلة الامتحانات الدورية». غير أنه يؤكد أن والدته تحظى برعاية أخوته الأربعة الذين يقيمون معها في مدينتها، «وهي ما زالت تعتمد على نفسها إذ لم تتجاوز ال 65 سنة». ويقول إنه حرص على أن يكون قريباً من والدته خلال الفترة التي تبعت وفاة والده نتيجة إصابته بالسرطان قبل خمس سنوات، «فحينها كانت تمر في حالة اكتئاب شديدة، خفت وطأتها بعد شهور».