مرّ خبر تسلّم الروائي الإسباني أنطونيو مونوز مولينا لجائزة «أورشليم للآداب» قبل أسبوع، مرور الكرام في الأوساط الثقافية العربية. إذ لم يدفع هذا الخبر وزارة ثقافة عربية واحدة، أو اتّحاداً واحداً من اتّحادات الكتّاب العربية وروابطها، ليعلّق عليه سلباً أو إيجاباً. قبل ذلك طالبت مجموعة من المثقّفين العالميين مولينا برفض الجائزة، إلا أنّه أصر على موقفه، وتوجّه إلى القدسالمحتلة ليتسلّم الجائزة. كان تبرير مولينا لقبوله بالجائزة واهياً، فقد قال: «في إسرائيل، هناك العديد من الأشخاص والمنظّمات التي تعمل لمصلحة السلام»، واستشهد في كلامه بدانيال بارنبويم قائد أوركسترا «الديوان الشرقي الغربي»، التي تضم في صفوفها موسيقيّين إسرائيليين وفلسطينيين وإسباناً. لعلّ هذا التّبرير الذي ساقه مولينا لا ينطلي على أحد، حتى على مولينا نفسه، بخاصّة أنّه جاء في وقت تقوم فيه إسرائيل بتصفية القضية الفلسطينية، سواء من خلال عمليّات الإبادة التي ترتكبها بحقّ الشّعب الفلسطيني، أو من خلال مصادرة الأرض الفلسطينية، وبناء المستعمرات عليها. مثل هذه الأعمال لم تعد تخفى على أحد، فهي تُبَثّ على مدار الساعة من قِبَل الفضائيات التلفزيونية، ويتداولها جمهور واسع من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي في العالم. وثمة تبرير آخر يعتقد أصحابه، أنّ رفض الجائزة الإسرائيلية يمكن أن يتسبّب للكاتب بشيء من الأذى، ومن ذلك أن يجري اتّهامه بجرم معاداة السّاميّة المعروف. مثل هذا الأمر قد يكون وارداً، ولكنّه ليس بهذا الأثر الذي يجري تهويله. في هذا المجال لدينا عدد مهمّ من المواقف الثقافية الجريئة، التي أعلن أصحابها عن انحيازهم إلى جانب الشّعب الفلسطيني، ومن هؤلاء الفائز بجائزة نوبل الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي أصدر بيانه الناري إبّان اجتياح المدن الفلسطينية في العام 2002، وكان بعنوان «بيان لا يوقّعه سواي»، وقال فيه: «أنا أعلن عن اشمئزازي من المجازر التي ترتكبها يوميّاً المدرسة الصهيونية الحديثة... أنا أطالب بترشيح آرييل شارون لجائزة نوبل في القتل. سامحوني إذا قلت أيضاً إنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل. أنا أعلن عن إعجابي غير المحدود ببطولة الشّعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة». أمّا بخصوص الخوف عند بعضهم من اتّهامهم بمعاداة السّامية فيقول: «هناك بلا شكّ أصوات كثيرة على امتداد العالم تريد أن تعرب عن احتجاجها ضدّ هذه المجازر المستمرّة حتى الآن، لولا الخوف من اتّهامها بمعاداة السّامية، أو إعاقة الوفاق الدّولي. أنا لا أعرف هل هؤلاء يدركون أنّهم هكذا يبيعون أرواحهم، في مواجهة ابتزاز رخيص، لا يجب التّصدّي له سوى بالاحتقار! لا أحد عانى كالشّعب الفلسطيني، فإلى متى نظلّ بلا ألسنة؟». الموقف الآخر الذي يمكن أن نذكره هنا، هو موقف الكاتب والمسرحي الفرنسي جان جينه، صاحب كتاب «الأسير العاشق»، الذي يتحدّث فيه عن نضال الشعب الفلسطيني، ثمّ كتابه المهمّ «أربع ساعات في شاتيلا»، الذي سجّل فيه شهادته على المجزرة التي تعرّض لها مخيّما صبرا وشاتيلا عام 1982. ومن المواقف الجريئة الأخرى موقف وفد «برلمان الكتّاب الدّولي»، الذي زار رام الله العام 2002، والذي ضمّ كلاً من: وول سوينكا، جوزيه ساراماغو، بريتن بريتنباخ، خوان غويتسولو، ورسل بانكس. وأعرب هؤلاء الكتّاب العالميّون الكبار دعمهم للكفاح العادل الذي يخوضه الشعب الفلسطيني، وشجبوا غطرسة القوّة الإسرائيلية التي تغتال الأرض والإنسان الفلسطينيّين. لم تعد القضيّة الفلسطينية مجرّد قضيّة عاديّة من آلاف القضايا المتداولة في العالم، لقد أصبحت هذه القضيّة رمزاً لقضيّة العدالة في الأرض. بل أصبحت ضميراً لهذه العدالة، وضميراً لثقافة العالم. لقد انتهى زمن الاستعمار، ولم يعد هناك في العالم المعاصر من شعب يعاني من الاحتلال والإبادة غير الشّعب الفلسطيني. لذلك لم يعد أمام المثقّف الحقيقي غير أن ينحاز إلى قضيّة هذا الشعب، وإذا حصل العكس أي انحاز إلى أعدائه من القتلة، فثمّة خلل كبير في رؤيته. إذ كيف يسعى من خلال إبداعه إلى الاحتفاء بمعاني الحريّة والجمال، في الوقت الذي يقوم فيه بمصافحة القتلة وتلقّي الجوائز منهم!! في العام 2009 رفض الروائي الإسباني المعروف خوان غويتسولو، تلقّي الجائزة الدولية للكتّاب، وهي جائزة ليبية مقدارها مئة وخمسون ألف يورو، وصرح بأنه رفضها لأنّ المبلغ المالي أتى من الجماهيرية الليبية التي استولى على حكمها العقيد القذّافي بانقلاب عسكري. وصرّح قائلاً إنّه يحترم ثقافات الشّعوب العربية، ولكنّه لا يتردّد في انتقاد الأنظمة الديكتاتورية، وأضاف بنوع من التّصالح مع ضميره الثقافي: «إنّ الانسجام مع نفسي قد انتصر بشكل كبير على كل اعتبارات الامتنان والصّداقة»، في إشارة إلى علاقته المتينة بالكاتب الليبي ابراهيم الكوني. بعد كل ما ورد يحقّ لنا أن نسأل: هل أراد مولينا أن يتصالح مع نفسه حين تسلّم الجائزة؟ أم أنّه ذهب طائعاً كي يجامل القتلة؟