قبل فترة وجيزة، أصدرت هيئة دولية تعنى ببراءات الابتكار عالمياً، قائمة بالأكثر إنجازاً في الاختراع، مع ملاحظة أنها ركّزت على المؤسسات والشركات، وليس الدول بحدّ ذاتها. لم تظهر دولة عربية أو إسلامية في قائمة الخمسين الأكثر ابتكاراً، بل ولا حتى في قائمة المئة! في المقابل، كان ثمة وقائع، تثير الألم عربياً، بالأحرى تُجدّده. إذ تقدّمت دول مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية، حتى على دول راسخة في الابتكار كبريطانيا! (أنظر «الحياة» في 12 كانون ثاني/يناير 2013). من المأسوي القول انه في زمن ليس ببعيد، كانت تلك الدول بالكاد في مستوى دولة كمصر، بل أن كوريا الجنوبية كانت متأخرة عنها كثيراً. فقبل عقود قليلة، لم تكن كوريا سوى دولة ذاقت الكأس الأمرّ من «الحرب الباردة» بين الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة، فتمزقت إلى شعبين ودولتين، لا يجمعهما عشية الانفصال سوى الخراب العميم. وحاضراً، تبدو كوريا الجنوبية كأنها عملاق علمياً بالنسبة لمصر. لا داعي للحديث عن الهند والصين، وكلاهما يركّز نهضته حاضراً على الارتقاء إلى مستوى الإيقاع المتصاعد للعلوم الحديثة. تحرّك بخطى وئيدة ثمة تحرّك نحو دعم العلوم والبحوث وتشرّبهما. هناك أمثلة واضحة. رُصِد ل «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا»، التي انطلقت في 2009، 20 بليون دولار، ما يفوق كثير من أضخم الجامعات الأميركية. واستُقدِم عالِم بقامة «نوبلية»، هو الفرنسي جان فرايشيه، لترأس بحوثها. ونسج فرايشيه علاقات تعاون مع جامعات أوكسفورد وكامبردج و «الكليّة الملكيّة» في لندن. وأعلنت قطر نيتها رفع موازنة البحوث من 0.8 في المئة من الناتج القومي إلى 2.8 في المئة، ما يساوي قرابة 5 بلايين دولار سنوياً. زادت تركيا إنفاقها ب10 في المئة سنوياً بين عامي 2005 و2010، ما أوصلها إلى دعم البحوث بضعفي ما فعلته السويد في 2010. وبين عامي 2000 و 2009، ارتفع عدد الأوراق العلمية التركية من 5 آلاف إلى 22 ألفاً. ورصدت دراسة لمؤسسة «تومسون رويترز» أن الأوراق العلمية المنتجة في مصر والأردن والسعودية وإيران وتركيا، وهي المجموعة الأغزر إسلامياً، اقتُبِسَت في تسعينات القرن الماضي (في بحوث علمية عالمية) بما يقلّ عن ربع المعدل العالمي، لكن النسبة تضاعفت بحلول عام 2009، مع بروز كبير في نسبة بحوث الرياضيات. وتبدي تركيا تقدّماً ملحوظاً في مجال الهندسة. أحياناً، استطاعت العلوم تخطي عوائق شائكة في السياسة، ما يعني التوسّع في قبولها فكرياً، وهي خطوة أساسية لتشرّب ثقافة العلوم وترسيخها في البنى الاجتماعية والثقافية. ففي عام 2000، أُنشئ في الأردن مصادمٌ للذرات مقتبسٌ من نموذج «المختبر الأوروبي للعلوم الذرية» (سيرن)، حمل اسم «سيسام» SESAME. وحاضراً، تضمّ صفوفه علماء من الأردن وفلسطين وإيران وإسرائيل. داروين يستفز المسيحية أيضاً يلاحظ أن لا مشكلة لدى الباحثين العرب والمسلمين في مواضيع مثل الهندسة والزراعة والطب والكيمياء. لكن، لا يتردّد بعضهم في الإعراب عن تحفّظه حيال نظريات تقول بوجود سلف مشترك بين الإنسان والقردة العليا، على غرار ما تقوله نظرية تشارلز داروين. استطراداً، هناك مقاومة للداروينية حتى في الغرب، ولأسباب دينية أيضاً، كما يلاحظ في نقاشات حادّة في الولاياتالمتحدة مثلاً. وفي عام 2008، نشر عالِم الفضاء الباكستاني- الأميركي سليمان حميد (من جامعة ماساشوستس)، دراسة أوضحت أن قرابة خُمسُ اختصاصيي البيولوجيا في أندونيسيا وماليزيا وباكستان، يقبلون بنظرية التطوّر في الكائنات الحيّة، وتتدنى النسبة إلى 8 في المئة في مصر. ولا يمتنع بعض العلماء المسلمين عن قبول القول بالتطوّر في كائنات حيّة كثيرة، كالنبات والحيوان، لكنهم يرفضون تطبيقها على الإنسان، متمسكين بالنظرة الدينية إلى هذه المسألة، على غرار كثير من زملائهم في الغرب أيضاً. ومثلاً، يبذل داعية تركي، هو هارون يحي، جهوداً دؤوبة (مع استعمال بارع للإنترنت) في مكافحة الداروينية، لكنه لا يتردد في قبول القول إن عمر الكون ربما فاق 13 بليون سنة. المفارقة أن هناك تياراً صاعداً في الولاياتالمتحدة خصوصاً، يحمل اسم «الخلقية»، يرفض القول إن للكون هذا العمر المديد، ويصر على الالتزام بالسنوات الواردة في «الكتاب المقدس» التي تقدّر الزمن المنقضي منذ خلق الكون لحد الآن، بقرابة 6 آلاف سنة! وتنمو هذه النظرية في البلاد التي تحتضن ال «ناسا»، بل أنها مهد النسبية واكتشاف الكون ونظرية ال «بيغ- بانغ» التي تقول ببلايين السنين عمراً للكون. واستطراداً، تبنى كثيرون من المفكرين في العالم الإسلامي والعربي ال «بيغ- بانغ» باعتبارها تتفق مع الإسلام، ما يعطي دليلاً آخر على أن التخلّف في العِلم ليس مصدره الدين. وهناك عالِمة أميركية معاصرة آمنَت بالإسلام، هي فاطمة جاكسون، لا ترى أي تناقض بين القول إن التطوّر هو أساس بيولوجيا الكائنات الحيّة، وبين الإسلام، مشيرة إلى اقتناعها بأن العِلم يبحث في الأشياء، أما القرآن فإنه يقدّم تفسيراً لأسبابها. وفي نفسٍ مُشابِه، تُشدّد عالِمة الجينات الأردنية رنا دجاني أن بعض المُفسرين لا يرون تناقضاً بين التطوّر البيولوجي، ونصوص القرآن. تجربة خلايا المنشأ تذكّر هذه الأقوال بشيء آخر. فمع نهوض علوم الجينات، برزت مشكلة خلايا المنشأ Stem Cells (تترجم أحياناً «الخلايا الجذعية»، وهي ترجمة حرفيّة ربما لا تكون موفقّة)، التي تؤخذ من الأجنّة، خصوصاً تلك التي تأتي من عمليات التلقيح الاصطناعي In Vitro Fertilization. ولم تواجه آليات الحصول على هذه الخلايا مقاومة كبيرة من النظرة الإسلامية، لأنها تشير إلى أن الروح تتحرّك في البويضة المُلقّحة بعد مرور أيام على التلقيح (وتقول كنائس مسيحية كثيرة بهذا الأمر أيضاً). وفي الغرب، لاقت هذه الآليات مقاومة من حركات ثقافية وعلمية واجتماعية كثيرة، شدّدت على أن البويضة المُلقّحة هي جنين في طوّر التكوّن، ما يعطيه حقوق الكائن البشري الحيّ.