خفت «المأمأة» واندثر الثغاء وسكن الرغاء وهمد الخوار، واصطفت الطوابير وجلجلت النغمات الراقصة والصيحات الهادرة. وفي الوقت نفسه، بزغ النهيق على وقع مطالبات بفراء يبدو أنه سيكون عزيزاً، وهتفت الجموع جداً في هزل «عايزين ناكل لحمة»، رغم أنف الأكشاك الحكومية والتيسيرات العسكرية والأسعار الزراعية. ورغم ملامح وجهه الطاعنة ومقاييس جسمه الهرمة وهزال أرجله الواضح، منعه صاحبه من الجلوس أو الاتكاء أو شرب الماء، فخرجت ال «ماء» محشرجة، وبدت الوقفة مخلخلة، فعرف الجميع أن الخروف بلغ من العمر أرذله وأن سعر الكيلوغرام منه ليس إلا نصباً واحتيالاً، ولافتة «نحطم الأسعار تحطيماً» ليست إلا دقاً على مشاعر الفقراء وعزفاً على طموح البؤساء. بؤس بعضهم وضنك الحال وضيق ذات اليد بدت واضحة جلية في الطوابير الممتدة، والمناقشات الشعبية التي تدور على مدار ساعات العمل في أكشاك اللحوم البلدية وقريناتها من غير المصرية والمعروفة بالمجمدة والمبيعة على أنها أجنبية المولد مصرية التربية. عدد كبير من أكشاك رفع العناء عن كاهل المصريين الراغبين في مواكبة روح الاحتفال بعيد الأضحى المبارك بالفوز ببعض من اللحوم وإدخال القليل منها في الفتة والرقاق وكل ما ارتبط من أكلات بالعيد المبارك. جهود رفع العناء الموسمي عن كاهل الغلابة وضمهم مؤقتاً إلى قوائم المحظوظين بتواجد البروتينات الحيوانية والأحماض الأمينية على موائدهم في مثل تلك الأيام المباركة بدت واضحة من خلال مئات الأكشاك التي فوجئ بها المواطنون على أرصفة الأحياء الحيوية والتجمعات السكانية. تسييس الأكشاك الحكومية، المتراوحة بين تبعية وزارتي الزراعة والتموين المنشغلتين بالطبقات الأقل حظاً، ووزارة الدفاع الضالعة على مر التاريخ الحديث في التدخل السريع لرفع الغمة عن قلوب المواطنين، بدا واضحاً للجميع. فعبارة «نحمل اللحم لمصر» التي كتبها أحدهم على أحد الأكشاك أيقظت ذكريات الماضي الأليم لدى كثيرين حين أعلنت جماعة أنها «تحمل الخير لمصر»، وأججت غضب بعض المتعاطفين مع جماعة حاربتها الدولة العميقة بفلولها العتيدة والفئات المارقة بعبيد بيادتها، ولولا توحد الجميع على هدف واحد وغرضٍ سامٍ، ألا وهو غاية المنى وكل الأمل، متمثلاً في كندوز بالعظام أو ضأن بلا دهون أو بتلو مشفى، لدَك الطرفان الكشك على رؤوس من فيه، ضاربين عرض الحائط بالأيام المفترجة. وفي مثل تلك الأيام المفترجة من كل عام جرى العرف أن تنطلق أصوات الخراف والأبقار والجمال انتظاراً للمضحين وبحثاً عن الآكلين. ولا تعكس حركة البيع والشراء فقط حرصاً على ركن ديني أو حباً في طقس اجتماعي، لكنها مؤشر حقيقي ومقياس رمزي لما في الجيوب من أموال وما لديهم في البنوك من حسابات. الحسابات المدوّنة في كراسة المبيعات في أكشاك اللحوم الحكومية تشير إلى حيازات فردية لكيلوغرام أو اثنين أو اثنين ونصف على أبعد تقدير، ما يعني تقطيراً بروتينياً إجبارياً. «مجبر أخاك لا بطل» كان تعليل أحد الواقفين في طابور كشك يطرح اللحوم التابعة للقوات المسلحة، وذلك بعدما أفرط الرجل في التنكيت على «الجيش الذي يبيع اللحوم» و «لم يكتف بالانخراط في الحياة السياسية بل يطرح الكندوز ويعرض البتلو ويروج الضأن». وقد نجم عن التعليل وأسفر عن التنكيت قرار جماعي وإجراء احترازي بدفع الرجل بعيداً، فلا لحماً نال ولا تعاطفاً حاز. وحازت جهود الحكومة وأكشاك الوزارات استحسان المواطنين قبل إقبالهم، وتقديرهم وليس انتقادهم. انتقاد طرح جهات سيادية للحوم بلدية وانخراط وزارات الزراعة والصحة والتموين في تأمين موائد المصريين بالبنية التحتية اللازمة للفتة والشوربة والرقاق (فطائر مصرية) يظل سمة معارضي الحكم من «إخوان» وثوريين أصوليين. «الأصول هي أن تراعي الدولة حاجات المواطنين وتوفر اللحوم بأسعار مناسبة في تلك الأيام، ولا يهم المواطن إن كان مصدرها وزارة الزراعة أو الدفاع أو الاتصالات. أليسوا كلهم حكومة في بعض؟!»، تساءلت إحدى السيدات المصطفات في صبر بالغ وإيمان عميق وثقة كبيرة في حصولها على اللحم المرجو، بعدما استفزتها إشارات «إخوانية» مبطنة عن ضلوع الجيش في اللحم. وذيّلت موقفها الايديولوجي ورأيها الاستراتيجي بمجابهة صارمة ومعايرة صادمة لأمس قريب صعد بأحدهم إلى سدة الحكم ب «شوية زيت وحبة سكر وتلقيمة شاي»! وأمام نهيق صادح لحمار مارق يجر عربة فارغة يعلن قائدها أفضل الأسعار لفراء الخراف بعد ذبحها، سكت الجميع لحظات، وبعد أن مر الحمار، اتفق الكل على أن خروف هذا العام بلا فراء أو أحشاء بحكم الأوضاع الاقتصادية والأحوال العائلية، وذلك باستثناء الأسر الثرية وربما الأسماء الجلية التي أعلن بعضها توزيع لحوم العيد في دوائره الانتخابية المرتقبة استعداداً لانتخابات برلمانية على الأبواب بأضاحي سياسية لأهداف تصويتية.