ارتبط اسم الروائية الاميركية بيرل باك (1892 - 1973) بروايتها «الأرض الطيبة» التي نالت شهرة فاقت، كثيراً، شهرة أعمال أخرى لها. فهذه الرواية، الصادرة اخيراً عن دار الأهلية (عمان، بيروت) بترجمة خالد الحسيني، مثّلت «واسطة العقد» ضمن تجربتها الابداعية، واعتبرت، لاحقاً، الجزء الاول لثلاثية روائية ضمت، كذلك، «الأبناء» و «بيت منقسم على نفسه». واللافت أن هذه الرواية تتناول طبيعة المجتمع الريفي في الصين مطالع القرن العشرين، فكيف تسنى لهذه الروائية الأميركية أن تتعرف إلى طبيعة ذلك المجتمع البعيد، وتتناوله روائياً في قصصها ورواياتها؟ جواب هذا السؤال نجده في السيرة الذاتية لبيرل باك التي ولدت في هيلز بورو غرب ولاية فرجينيا. كان والداها يعملان ضمن برامج التبشير الديني، ومن أجل ذلك انتقلت الأسرة إلى الصين حيث تلقت بيرل تعليمها الأول في مدرسة في مدينة شنغهاي. عادت الى بلادها لتلتحق بالجامعة، فحصلت على ليسانس في الآداب من كلية راندولف ماكون عام 1914، ثم عملت مدرّسة للفلسفة. وفي عام 1917 تزوجت من الدكتور لوسينغ باك، فانتقلا للعمل في شمال الصين خمس سنوات، وعملت بيرل هناك في تدريس الأدب الإنكليزي في جامعات مختلفة. وصفت باك نفسها، في ما بعد، بأنها كانت «فضولية للتعرف إلى الناس وتفاصيل حياتهم وتقاليدهم»، واغتنمت الفرصة، أيضاً، لتتعلم اللغة الصينية والأساطير التاوية والبوذية. هذا الفضول اتاح لها التعرف إلى طبيعة المجتمع الصيني عن قرب، فراحت تستثمر هذه التجرية كتابياً، في روايات عدة مثل روايتي «رياح الشرق»، و «رياح الغرب»، وغيرهما من الأعمال التي نهلت من بيئة الشرق. لكن الرواية التي أظهرت خلالها باك مقداراً كبيراً من الاستيعاب للفضاء الصيني ولروح الشرق، هي «الأرض الطيبة» التي نالت نجاحاً سريعاً، وترجمت الى الكثير من اللغات، كما اقتُبس منها فيلم سينمائي. تسرد باك في «الأرض الطيبة» ملحمة روائية تتغنى بعشق الانسان للأرض، ومدى احترام الفلاح الصيني للقيم والتقاليد المتوارثة عبر الاجيال. بطل الرواية وانغ لونغ يعيش مع ابيه في بيت ريفي فقير، يعمل في الأرض ويكدح من دون تذمر. يقرر، بعدما اصبح شاباً، الزواج من فتاة جارية في بيت آل هوانغ الثري، اسمها أولان. وعلى رغم ان الفتاة، كما تصفها الرواية، لا تتمتع بأي مقدار من الجمال، بيد أنها كانت زوجة مطيعة وصابرة، إذ راحت تعين زوجها في الحقل، وترعى والده المسنّ، وتنجب له. حياة الاسرة تمضي على هذا النحو الهادئ، الى ان يحل ما كان يخشاه الجميع. حلت سنوات الجفاف، وأصبحت الأرض جدباء، والأيام قاسية... ما أجبر الناس على أكل الأعشاب والنباتات البرية، بل وصل بهم الأمر الى أكل الحيوانات النافقة، وثمة من راح يهمس ويرغب في اكل لحم البشر في تلك السنوات القاحلة. وعلى رغم هذا الفقر المدقع، يرفض وانغ لونغ الخضوع للابتزاز وبيع أرضه مقابل ثمن بخس. يقرر الذهاب مع اسرته نحو الجنوب بحثاً عن لقمة العيش، وحفاظاً على اولاده الذين اصبحوا اقرب الى الموت أكثر من قربهم للحياة. يعمل لونغ هناك في نقل الاثرياء عبر سحب «عربة الجيشا»، بينما عمل اولاده في التسول. وتمضي الايام على هذا النحو الشاق؛ المضني الى ان يهاجم الفقراء بيوت الأثرياء، فتحصل اسرة لونغ على نصيب من الجواهر الثمينة. لقد اصبح الحلم حقيقة، وبات في وسع الاسرة العودة الى أرضها الطيبة، بل يقوم لونغ بشراء المزيد من الاراضي من اسرة آل هوانغ الثرية، وهو، بدوره، يصبح ثرياً، فيستعين بعمال يعملون في أرضه، ويرسل أولاده الى المدرسة، ويهفو قلبه نحو نساء أخريات من دون أن يتخلى عن زوجته الأولى. هذا التحول الذي اصاب وضع لونغ لا يُحدث اي تغيير في علاقته بالأرض، بل يبقى شغوفاً بتلك التضاريس التي خبرها طويلاً، وحين يكبر في العمر، ولم يعد قادراً على العمل، يسمع بأن ولديه يتحدثان عن بيع الارض بعد رحيله. هنا تسقط دمعته، ويتذكر سنواته الماضية؛ سنوات الشقاء والكدح والمثابرة، فيؤنّب ولديه، قائلاً بصوته المتعب: «ان بيع الأرض إيذان بنهاية أية اسرة تقدم عليه... فمنها نشأنا واليها نعود، فإذا حافظتما عليها، عشتما... ستحل النهاية اذا بعتما الأرض». تعكس الرواية المعرفة العميقة للكاتبة بالمجتمع الصيني، ومدى اعجابها بتلك العلاقات الاسرية البسيطة في ريف الصين، إذ تظهر تعلق بطل الرواية بالأرض وإخلاصه لها في صورة تقترب من القداسة، وسعيه الدائم الى الاعتناء بالأرض، فلا شيء يرضي البطل في هذه الحياة سوى أن يرى الأرض مخضرّة ونباتاته يانعة؛ ناضجة. ولا تتغير هذه القاعدة لدى لونغ، فحينما كان فقيراً ومعدماً كان يعشق الأرض، وعندما اصبح ثرياً؛ فإن ذلك لم يدفعه الى التخلي عنها، بل بقي هذا العشق غافياً بين الضلوع، ولطالما حاول أن يلقن أولاده وأحفاده درساً بأن الخلاص هو في الاهتمام بالأرض، أما التخلي عنها، فيعني النهاية. تقدم باك صورة محببة ودقيقة عن المجتمع الصيني، وتنقل تفاصيل غنية عن طبيعته وكفاحه من أجل البقاء في سنوات المجاعة والقحط، وهي تنجح في رصد جوانب من الثقافة المحلية، والمعتقدات والأساطير التي يؤمنون بها. وخلال صفحات الرواية سنتعرف الى صفات السكان المحليين وسلوكياتهم، وسنطلع على تلك الفضاءات الغنية التي ترسمها باك عبر سرد بسيط يتصاعد زمنياً من لحظة إقدام بطل الرواية على الزواج مروراً بمختلف مراحل العمر وصولاً الى الشيخوخة وانتظار الموت القريب. وتتجلى تلك النزعة الانسانية لدى الكاتبة التي توثق سيرة اسرة بسيطة حافظت على أرضها ومرت بمراحل صعبة وبقيت وفية لعاداتها وإرثها وتقاليدها. كما ان بطل الرواية، هنا، يتحلى بصفات خاصة، فهو ينتمي الى عامة الناس. هو بطل هامشي؛ مغلوب على أمره. بيد انه يحتل متن السرد في رواية تروى وكأنها حكاية خرافية شبيهة بتلك التي ترويها الجدات للأحفاد. لكن التمعن في تفاصيلها ومساراتها يكشف عن نص متقن يشير الى تفاني الصينيين في العمل، وإصرارهم على التحلي بالصبر والأمل، ولعل هذا التفاني والإصرار هما اللذان جعلا من الصين، في العقود الأخيرة، واحدة من الدول الكبرى على المستوى الاقتصادي. فازت باك بجائزة نوبل للآداب عام 1938 تقديراً لما قدمته من أعمال أدبية متميزة، بخاصة تلك التي تعرض تفاصيل الحياة الصينية، وعدّت، آنذاك، أول روائية وشاعرة أميركية تنال هذه الجائزة. كتبت باك، للمرة، الأولى عن الحياة الأميركية في رواية «القلب الفخور» وكانت الحلقة الأولى لسلسلة روايات عن النساء الأميركيات. روت باك سيرتها الذاتية في كتاب «دنياي العديدة» الذي يتحدث عن المدن والبلاد التي سافرت إليها مثل الهند واليابان وكوريا وفيتنام وحياتها في الصين، خصوصاً. وهي كتبت بعض أعمالها بأسماء مستعارة ثم عادت ونشرتها باسمها الحقيقي، كما هو الحال مع كتابيها «ماندالا»، و «الحب يبقى». نالت بيرل احترام النقاد، ومنحتها جامعة «ييل» عام 1933 درجة الأستاذية الفخرية في الأدب، ونالت أيضاً درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة فرجينيا الغربية وجامعة سانت لورنس، وفي عام 1935 نالت ميدالية هويلز، واختيرت عضواً في المعهد الوطني للفنون والآداب عام 1936. وضمن جهودها لخدمة التواصل بين الشرق والغرب وبناء جسر ثقافي بينهما أسست «جمعية الشرق والغرب» وتولت رئاستها. توفيت بيرل باك عام 1973، وكان آخر ما تأسفت له هو التمييز العنصري الذي عمّ بلادها أميركا، تلك البلاد التي طالما من أجلها غبطت هدوء تلك الأرياف الصينية البعيدة وإنسانيتها.