ليس الحديث هنا عن قصة «المعطف» للكاتب الروسي غوغول، وإنما عن معطف الطفلة الكردية الصغيرة، المجهولة الاسم، التي زارت مع والديها مخيم دوميز للاجئين الاكراد في كردستان العراق، فرأت بعينيها البريئتين أترابها الصغار وهم يتضورون جوعاً، ويرتجفون من البرد بلا أبسط المستلزمات، فما كان منها إلا ان خلعت معطفها، قائلة: «حتى هذا المعطف أتبرع به لهؤلاء اللاجئين». الصورة واضحة جلية: فريق من فضائية «كُرد سات» (التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني) يزور المخيم، ويجري تحقيقاً مصوراً حوله، ويبدو انه صادف الطفلة الصغيرة الأنيقة التي تتجول في المخيم. لكنها، وكما يبدو من ملامحها وهندامها، لا تنتمي الى هذا المكان البائس، فتؤثر الفضائية ان تستطلع رأيها في ما تراه. تتحدث الطفلة، ذات العشرة أعوام تقريباً، عن تأثرها بما شاهدت، وتقول، بصوتها الباكي وعينها الدامعة، انها أتت مع والديها... لكنّ الكلمات سرعان ما تختنق في صدرها. عندئذ، تخلع معطفها الجديد، وتترك عدسة الكاميرا ذاهبة في اتجاه جمع يضم اطفالاً وشباناً ونساء وتتبرع به، فتعطيه لأول يد تمتد نحوها. لا فبركة في الصورة ولا ادعاء، فهذه الصورة العفوية، التي بثتها قناة «كُرد سات»، فاقت الكثير من المواد والبرامج والتقارير التي تحاول استدرار العطف وتسليط الضوء على معاناة اللاجئين، بيد انها لا تستطيع ان تخفي البعد الانفعالي والتكلف. في هذه الصورة لا مجال للرياء أو المبالغة، فهي جاءت على نحو تلقائي وهزت الضمائر من خلال مقطع قصير لا تتجاوز مدته الدقيقتين. تقول الحكمة الصينية ان «صورة واحدة تعادل عشرة آلاف كلمة». هذه الحكمة صحيحة من حيث المبدأ، غير ان التدقيق في فحواها يجعلها عرضة للشك، فالصور لها مراتب ومستويات، وهي متباينة بحيث لا يمكن وضع كل الصور في خانة واحدة ومن ثم التسليم بأنها تعادل ذلك الرقم من الكلمات. ففي ملف اللاجئين السوريين، مثلاً، ظهرت آلاف المشاهد والتقارير المصورة. لكن المقاطع التي استطاعت ان تنقل مرارة اللجوء وأبعادها وتداعياتها كانت قليلة، ناهيك عن ان الخطابات والمفردات «المفعمة بالعاطفة الجياشة»، التي صدرت عن السياسيين، لم تفلح سوى في تلميع صورة السياسي، بينما بقي اللاجئ لاجئاً بكل ما تحمله هذه المفردة من قسوة وألم. وإذا عدنا الى صورة الطفلة، سنجد أنها أسرت القلوب من حيث لا تقصد، فهي تصرفت على سجيتها، واختزلت في كلماتها القليلة وتصرفها البسيط مساحة شاسعة من العذابات. وهي، وإنْ خسرت معطفها، العزيز على قلبها، بلا شك، فكل شيء يملكه طفل عزيز على قلبه، لكنها اكتسبت صدقية من دون أن تطمح إلى شيء سوى توجيه رسالة حارة عبّر عنها محمود درويش ذات يوم: وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ / لا تنسَ شعب الخيام.