«حين منحت الجائزة من قبل تارنتينو وكيارستمي وألمودوفار... لم أكن أعرفهم!» يقول غارين نوغروهو المخرج الأندونيسي الأكثر شهرة عالمياً، في إشارة إلى لجنة التحكيم التي منحته جائزة في أحد المهرجانات عام 1994. صاحب «أوبرا جاوا» كان يتحدث في ندوة خصصها للسينما الأندونيسية مهرجان فزول الدولي للسينما الآسيوية. قبل أن نتطرق إلى هذه السينما، موضوعنا هنا، لا بد من التذكير بما يذْكَر دائماً عن هذه المدينة الصغيرة المستلقية بهدوء في أحضان طبيعة جميلة في شرق فرنسا، ف «فزول» تقيم مهرجانها السينمائي منذ تسعة عشر عاماً، قبل أن تشتهر به، عرفها كثيرون فقط من خلال أغنية لجاك بريل، ولو لم تكن هذه الأغنية لما ذكر أحد المدينة. فما إن تذكر لأحد ما انك ذاهب إلى «فزول» حتى يردد أغنية بريل الشهيرة «أردتِ رؤية فزول؟ ها قد رأينا فزول!»، كأن كل ما لا يخطر على البال، ومنه زيارة هذه المدينة التي لا يعرفها أحد، قد حققه لها، فماذا تريد غير هذا؟!. لكن هذه المدينة القابعة في شرق فرنسا، ليس بعيداً من الحدود مع سويسرا، نجحت في التعريف بنفسها بفضل مهرجانها (وربما أيضاً بفضل جمال منطقتها)، وهي على مدى أسبوع تستقطب جمهوراً يقدم من قريب ومن بعيد للتعرف على وجوه السينما الآسيوية قديمها وحديثها ويتجاوز الثلاثين ألفاً. في دورته الأخيرة، عرض المهرجان في المسابقة الرسمية تسعة أفلام تعكس التيارات الجديدة في آسيا، واحتفل بمرور مائة عام على السينما الهندية بعرض مختارات من أفلام كانت علامات في تاريخ تلك السينما، كما خصَّ السينما الأندونيسية بنظرة تضمنت عرض أكثر من عشرين فيلماً ابتداءً من منتصف الخمسينات وحتى يومنا هذا. سياسة وسينما تاريخ السينما الأندونيسية طويل ومليء بالانعطافات. كان المحتل الهولندي أول من أدخل الأجهزة السينمائية بهدف عرض أفلام نهاية القرن التاسع عشر. وظهر أول فيلم أندونيسي منتصف عام 1926. بعده بدأت الصناعة السينمائية بالتطور، بيد أن جلَّ الأفلام آنذاك كان بغرض الترفيه، ومع الاحتلال الياباني لأندونيسيا خلال الحرب العالمية الثانية وعند حرب الاستقلال في منتصف الأربعينات وحتى نهايتها، توقف الإنتاج تقريباً. ساهم قرار للرئيس سوكارنو بمنع استيراد الأفلام الأجنبية في تطوير السينما، لاسيما تلك التي تلعب على الشعور القومي وتدعو إلى مناهضة الغرب، فوصل الإنتاج منتصف الخمسينات إلى 65 فيلماً، وظهر حينها أوسار إسماعيل صاحب «بعد منع التجول»، الذي يعتبره الأندونيسيون « أكبر مخرج في كل العصور» ، فلا أحد برأي المخرج الحالي غارين نوغروهو «يعادل إسماعيل في قدرته على القصّ وبناء حبكة الفيلم». كانت مرحلة مهمة في تاريخ السينما الأندونيسية مع محاولات خلق هوية لها، ومع اهتمام السياسيين بها كوسيلة دعائية. عند وصول سوهارتو (1967-1998) الى السلطة، زادت الرقابة على الأفلام وتكرست السينما كوسيلة دعائية للنظام، ولكن أيضا كوسيلة لجلب الأرباح، وهكذا ارتفع عدد الأفلام المنتَجة إلى أكثر من مائة فيلم سنوياً في فترتي السبعينات والثمانينات. كان النموذج الهندي للسينما هو السائد، ومع أن تلك الفترة دعيت «الحقبة الذهبية للسينما الأندونيسية» إلا أن ما ميّزها كان عدد الأفلام وليس نوعيتها. في الفترة اللاحقة، حدث للسينما الإندونيسية ما جرى في العالم، فقد هجر الجمهور الصالات في نهاية الثمانينات واستقر أمام الشاشة الصغيرة. ويعتبر السينمائيون التسعينات فترة صعبة جداً وانتقالية للسينما وللسياسة على السواء، وعانوا فيها من الانغلاق ومن التدخل المباشر للدولة في عملهم، فلا حرية للمخرج باختيار فريق العمل مثلاً، كما أن إرسال الفيلم للمهرجانات كان لا يتم إلا عبر الطرق الرسمية... لكن مع بدايات الألفين، بدأ الكل يصنع أفلاماً، وظهر تيار اختار لغة سينمائية فنية وسيلة للتعبير، بعيداً من التيار التجاري السائد.. وتوجد اليوم في أندونيسيا 600 شاشة لأكثر من 260 مليون نسمة. ويبقى السؤال: وفق المخرج نوغروهو في بلد تعداده أكثر من 260 مليون نسمة ولديه ستمائة دار عرض، «كيف يتم تحريض الجمهور للذهاب إلى السينما؟». في الندوة أعطى صاحب «ورقة على وسادة» (مهرجان كان 98) خلاصة خبرته الطويلة في العمل السينمائي «لعمل حركة في السينما، يجب أن تكون هناك حركة في السياسة، فالنقاشات لا تنفع في تحريك الأمور!». مخرجات أندونيسيات اليوم قد يكون ما تعيشه السينما الأندونيسية عصرها الذهب، بخاصة أن الجيل الجديد يعتبر السينما الوسيلة الفضلى للمعرفة والانفتاح على تجارب العالم، لكن تبقى محاولات الإنتاج فردية وعائلية ولا أساس صلب تقوم عليه، وقد تنهار بسهولة، وفق السينمائيين أنفسهم. من هذه المحاولات تبرز أعمال مخرجات أندونيسيات من أبرزهن نان أشناس، التي حققت بين 2002 و2008 ثلاثة أفلام روائية تستخدم لغة سينمائية خلاقة تعتمد حديث الصورة والحوار الموجز، كما في فيلمها المميز «همس الرمال»، وتعود فيه، كما أفلامها الأخرى، صورة لقرية صينية مشتعلة حفرت في ذاكرة المخرجة حين كانت طفلة، في إشارة إلى التمييز الذي عانى منه الأندونيسيون من أصول صينية. أيضا كانت «نيا داناتا» من المخرجات اللواتي صعدن نهاية التسعينات وواجهن بمفردهن ظروف العمل الصعبة، وكما ذكرت داناتا في الندوة كانت تنتظر سقوط نظام سوهارتو وهي معتصمة مع الآخرين. لكنها اليوم تجد صعوبة في الاستمرار. وحكت ساماريا سيمانجونتاك، صعوبة تجربتها في دخول عالم السينما، ليس فقط لمعارضة أهلها بل أيضاً للعوائق المالية كذلك. وقد حلت المشكلتين في فيلمها الأول «نصف يو كوك» باستخدام والدتها في الدور الأولى وبطرح مشروعها السينمائي على الإنترنت لطلب مساهمين، فجاءتها مساهمات لم يتجاوز بعضها 10 دولار، لكن كل ذلك كان كافياً ليخرج فيلمها إلى النور. ومع هذا، ثمة مشكلة أخرى تواجهها ساماريا، كما قالت، فسينماها «ليست إكزوتيك بما فيه الكفاية لتصلح للمهرجانات، ولا تجارية بحتة لتجلب الجمهور»! لكنها على الأقل جلبت جائزة التمثيل الأولى لوالدتها في المهرجان الوطني للسينما الأندونيسية! أما كاملة أدنيني، التي سماها والدها نوغروهو بهذا الاسم، تيمناً باسم والدة جبران، كما أخبرتني في حديث قصير ل «الحياة»، فهي من المخرجات الشابات (26 عاما) المحظوظات، فقد سمحت لها بيئتها الفنية بالإطلاع على سينما العالم (وليس كما حصل مع والدها) وبالتمتع بمساعدة شركة إنتاج والدها لتحقيق فيلمها الأول» المرايا لا تكذب أبداً» عام 2011، وهو فيلم أرادت من خلاله التعبير عن معاناة نساء الصيادين في قرية صغيرة حيث يبقين وحيدات، ذلك أن منع الصيد في مناطقهم يستدعي توجه الأزواج نحو أمكنة بعيدة قد لا يعودون منها أبداً. وتشير كاملة إلى عدم وجود صناعة سينمائية في بلدها، وإلى أنه على كل سينمائي أن يدبر نفسه بنفسه ويجد وسائله الخاصة. وهي كامرأة في مهنة يسيطر عليها الرجال يواجهها تحد مضاعف. عرض فيلمها في أندونيسيا لكنه لم يلق إقبالاً فالأفلام الفنية لا مكان لها في دور العرض. وعلى الرغم من وجود جمهور كبير في أندونيسيا فإن مجالات الاختيار أمامه محدودة، فهو كالشعوب الأخرى تربى بالطبع على أفلام هوليوود. وتخبرنا كاملة بابتسامتها الدائمة بأن تحقيق أفلام مستقلة في بلدها العام الماضي اعتبر شيئاً واعداً، مضيفة أن ثمة حرية في التعبير نوعاً ما، لكن ثمة نوعاً جديداً من الرقابة يظهر اليوم في أندونيسيا «لا يتجسد في الحكومة، بل في الحركات الإسلامية». وعن معرفتهم بالسينما العربية ردت أن الأندونيسيين «يوجهون أنظارهم نحو العالم العربي في الدين فقط أما السينما...!»