كشفت معركة بورسعيد التي راح ضحيتها 36 قتيلاً ومئات الجرحى، انهيار دولة القانون في مصر، لأنها اندلعت في سياق الاحتجاج الشعبي على حكم الإعدام الصادر بحق المتهمين في قضية مذبحة ستاد بورسعيد التي راح ضحيتها 74 من مشجعي فريق الأهلي المصري، العام الماضي. غير أن الكارثة الحقيقية تكمن في أن هذا الانهيار جاء نتاجاً لواقع سياسي مأزوم تبلور منذ سقوط نظام مبارك وحتى الآن فعكس بذلك حجم الأزمة العميقة التي تعيشها مصر في اللحظة الراهنة، فمفهوم دولة القانون نشأ كأطروحة فلسفية أطلقها للمرة الأولى الفيلسوف الألماني الأشهر إيمانويل كانط في كتابه «مشروع السلام الدائم» الذي أكد فيه أن دور دولة القانون يتلخص في إنشاء حياة سلمية دائمة بصفتها الشرط الأساسي لإسعاد الشعب وازدهاره وهو دور لا يعد فقط جزءاً من نظرية القانون في إطارها العقلاني البحت بمقدار ما يعد هدفاً مطلقاً ونهائياً في حد ذاته. لذلك، فإن هناك سمات ستّاً لدولة القانون تجذرت في العرف السياسي والدستوري الدولي انطلاقاً من تلك الأطروحة. السمة الأولى هي سيادة الدستور التي تأتي انعكاساً لتعبير تلك الوثيقة عن المثل العليا المطلقة للمجتمع وإقامتها العدل في حياة الناس تحت رعاية القانون العام. والثانية هي اعتبار المجتمع المدني شريكاً مساوياً للدولة. والثالثة هي الفصل بين السلطات. والرابعة هي عدم قيام أي من السلطتين التشريعية والتنفيذية بعمل يخالف القانون. والخامسة هي مراجعة قرارات السلطة التنفيذية وأفعالها عبر جهات مستقلة. والسادسة هي احتكار الدولة حق الاستخدام المشروع للقوة. ومن ثم فإن تحول وثيقة الدستور من وثيقة قانونية سيادية وتوافقية إلى ساحة للصراع السياسي وتهميش دور المجتمع المدني في الحياة السياسية بعد الثورة وضرب السلطة التنفيذية بقيادة جماعة «الإخوان» مبدأَي الفصل بين السلطات وسيادة القانون، وهيمنة رئيس الجمهورية بموجب الدستور الجديد، على اختيار رؤساء الهيئات الرقابية الكبرى في البلد، وتنامي دور الميليشيات المسلحة ذات الطابع الثوري والإسلامي في شكل ينسف مبدأ احتكار الدولة حقَّ استخدام القوة، يعني بالمجمل انهياراً كاملاً لدولة القانون تتحمل مسؤوليته الأطراف المتصارعة الآن في مصر. وهو ما يستوجب في النهاية حتمية كسر قيادات جماعة «الإخوان» قاعدتهم الأثيرة المتمثلة في نكوصهم عن تعهداتهم المبرمة مع باقي فصائل الحركة الوطنية في مصر، بما يجعل من عدول جبهة الإنقاذ عن رفضها الحوار مع الرئيس أمراً ممكناً، ومن ثم تتاح الفرصة للبدء في حوار وطني جاد يخرج بحلول جذرية لأزمة تسييس المنظومة الدستورية والقانونية تعيد الاعتبار إلى مفهوم دولة القانون وتلبي ما يترتب عليه من استحقاقات سياسية ودستورية. فمن دون ذلك سيظل الشارع غارقاً في تلك الصراعات الدموية التي تفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات سقوط الدولة المصرية. * كاتب مصري