الأعوام الطويلة التي مرت على «ولادة» رواية «أنّا كارينينا»، وهي تتخطى قرناً ونصفه، لم تزد شخصية «أنّا» إلاّ ألقاً ونضارة. الرواية الضخمة التي اختتم بها تولستوي مساره الروائي الكبير كُتب عنها الكثير واختلف النقاد حولها، وولجت عالم السينما والمسرح من الباب الواسع، وعرفت نجاحاً هائلاً في العالم وليس فقط في روسيا، وطنها الأم. وقد يكون من الصعب جداً، اكتشاف زاوية جديدة فيها لم يُلق عليها ضوء، مثلها مثل الاعمال «الخالدة». شخصياً، وجرّاء انحيازي الى دوستويفسكي، لم أستطع، على غرار الكثيرين من «الدوستويفسكيين»، أن أقرأ تولستوي كما يجب. وأعترف بأنني عندما قرأت رواية «أنّا كارينينا»، لم تبهرني إلاّ شخصية هذه العاشقة الفريدة، ورحت أتجاوز الكثير من الصفحات بحثاً عنها وعن كل ما يتعلق بها وبحكاية حبها المجنون وخيانتها التي لم تكن سوى إغراق في الحب الحقيقي. لم أستطع أن أقرأ الرواية كلها بجزئيها الكبيرين، لكنني سطّرت تحت الجمل البديعة التي تتحدث هي فيها أو يتحدث فيها تولستوي عنها. هذه المرأة التي من لحم ودم، نادراً ما عرفت الرواية العالمية شخصية تضاهيها بقوتها ومأسويتها وسحرها، وبالصراع الرهيب الذي عاشته في داخلها، بين أمومتها وعشقها، بين انتمائها الزوجي وحبها الحارق. وبلغ بها هذا الاضطرام حتى أنها لم تتوانَ عن اعتبار نفسها امرأة لرجلين، رجل تحترمه ولا تحبه هو والد ابنها ورجل تحبه بجنون سيصبح والداً لأبنتها غير الشرعية. شاهدت أخيراً فيلماً جديداً مستوحى من «أنّا كارينينا» هو السابع ربما يسترجع سينمائياً هذه السيدة الساحرة، وقد أخرجه ببراعة جو رايت إنطلاقاً من سيناريو باهر أنجزه توم ستوبارد. لست في صدد قراءة الفيلم هنا، بل ما يهمني هو الصورة التي أرسمها في مخيلتي لهذه العاشقة التي رفعت فعل الخيانة الى مصاف الحب النقي، واللعنة الى مراتب النعمة ولو أنّ حياتها انتهت انتحاراً. هذه الصورة أشعر بأنّ ما من فيلم استطاع أن يكشف كل أسرارها، وبأنّ ما من ممثلة تمكنت من منحها كل ملامحها ومشاعرها التي تفوق التعبير أصلاً. لكنّ هذا الكلام لا يعني أنّ الممثلات الكبيرات، وفي مقدّمهن غريتا غاربو، لم يبرعن في أداء هذه الشخصية، بل إنّ بضعاً منهنّ أضفين على هذه الشخصية سمات جميلة. لعل ما يمكن قوله أنّ شخصية «أنّا» تظل عصية على التعرّي النفسي و«الطبائعي» التام، سواء أمام الكاميرا أم على المسرح أو في مخيلة القارئ نفسه. في قسمات هذه المرأة أسرار لا يمكن سبرها بسهولة، ومهما سُبر من أسرار تظلّ هناك أسرار كامنة، يشعر بها القارئ أو يحدسها. إنها امرأة من لحم ودم، كما يقال، إمرأة من شهوات ورغبات، من أهواء غامضة ونار وجمر لا يخمد... لكنها أيضاً امرأة من نقاء وبراءة، من إيمان وطفولة، إمرأة صالحة، ضعيفة وقوية، إمرأة ملغزة بما تختزن من فرح وخوف، من تناقض، ومن اضطراب وجودي لا يشفيه سوى الموت. عندما حلّ الحب على «أنّا» في أوج سأمها الزوجي ومضت في علاقتها السرية لم تلبث أن اعترفت لزوجها بهذا الحب اعترافها لكاهن بخطيئتها البيضاء، وواصلت هذا الحب الذي أضحى بمثابة فضيحة في المجتمع الارستقراطي الذي تحيا فيه. لم تهب الفضيحة ولا الجفاء الذي نجم عنها ولا احترامها لزوجها (الوزير) الذي يكبرها عشرين عاماً والذي ترك بحضوره الغائب فراغاً كبيراً في حياتها. لكنها ظلّت أماً، أماً حقيقية، بل إنّ الامومة زادتها ولعاً وحباً، على رغم خوفها من سوء فهم ابنها لها. إنها امرأة قدرية، إمرأة واجهت القدر وانتصرت عليه وإن انتحاراً. هكذا بدت اللحظة التي رأت فيها عاشقها، لحظة قدرية حارقة. ولم تقاوم. غلبها الحب الذي طال انتظارها إياه. السهم الاسطوري اخترق قلبها بلا رحمة، هي المرأة الساحرة، بألقها ونضارتها ولين حركتها وبريق عينيها وإشراقة شفتيها، وفق ما وصفها تولستوي. المرأة التي تخطو بسرعة، التي يشعر من يجهلها، بالسر، أنها جميلة، التي ترمي من ينظر اليها في حال من الاضطراب... كان لا بدّ لهذه المرأة العاشقة أن تقضي انتحاراً. أصوات عجلات القطار كانت تدوّي في رأسها بعدما شاهدت رجلاً يسقط تحتها. عندما كانت تضع وليدتها غير الشرعية كادت تحتضر وشعرت بأنّ الموت بدأ يقترب، لكنها كانت تقول سراً: «النهاية لم تأت بعد وستكون رهيبة». وكثيراً ما تخيلت الهاوية أمامها. وكانت تنقصها الغيرة التي أشعلها في روحها العاشق الذي ظنته يخونها، مع أنه حاول أيضاً الانتحار بعدما يئس من إقناعها بالزواج. إنها تحب للحب، الحب هو الحياة وليس الزواج إلاّ مقبرة له. وهذا ما لم يفهمه العاشق الباحث عن الطمأنينة. تصرّ هي على أن تظلّ عاشقة، أمّاً وعاشقة. وعندما تظلم اللحظات الاخيرة في قلبها تقصد محطّة القطار، باحثة عن نهاية تراجيدية تليق بمأساتها، وقبل أن ترمي بنفسها تحت العجلات تقول: «سيعاقَب هو وسأنتقم من الجميع ومن نفسي». وفي اللحظة التي سقطت فيها قالت: «سامحني». بعد مضيّ قرن ونصف قرن على ولادة «أنّا» لا تزال هذه المرأة الساحرة تزداد فتنة وكأنها امرأة المستقبل. هذا شأن «أنّا» المرأة، أما الرواية فشأنها شأن آخر.